إن أمراض التطرف وأوبئته خطِرةٌ جدًّا، ووسائلُ علاجها علميةً وسلوكيةً واجتماعيةً وسياسيةً وثقافية، تعود كلُّها إلى فهم الدين على ما هو عليه فهمًا صحيحًا سليمًا، فهو الذي يضبطُها ويقيمها على سَنن الاعتدال والوسطية، فحينئذٍ يعرف الحاكمُ حقوقه وواجباته الدينية، ويعرف أفرادُ الشعب حقوقهم وواجباتهم الدينية. فكم هو عظيمٌ العَوْدُ إلى ينابيع الدين الصافية، والتمسُّك بمصادر التشريع الأصيلة! وكم هو رائعٌ أن يكون رجوعًا عامًّا يشمل الفردَ والمجتمع والدولة!

العصمة في التعلُّم
إن تعلُّم مراتب المأمورات ومراتب المنهيَّات شرعًا؛ لتحاشي الوقوع في الإفراط والتفريط، هو العلاج المهمُّ للغلوِّ والتطرف، فبتعلُّم الأحكام الشرعية يحصُل التفريق بين ما هو كفر، أو حرام دون الكفر، أو مكروه دون الحرام. وبين ما هو فرضُ عين، أو فرض كفاية، أو مسنونٌ دون الواجب والفرض.

قال الله تعالى: {يَرفَعِ اللهُ الذينَ آمنُوا مِنكُم والذينَ أُوتُوا العِلمَ درَجاتٍ واللهُ بما تعمَلونَ خَبير} [المجادَلة: 11]، وقال تعالى: {قُل هل يَستَوي الذينَ يعلَمونَ والذينَ لا يعلَمونَ إنما يتذكَّرُ أُولو الألباب} [الزُّمَر: 9]. وعن معاويةَ بن أبي سفيانَ رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيُّها الناسُ، إنما العلمُ بالتعلُّم، والفِقهُ بالتفَقُّه، ومَن يُردِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّههُ في الدِّين، وإنما يخشَى اللهَ من عِباده العلماءُ). وقال أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه لتلميذه كُمَيل بن زياد النخَعي: (العِلمُ يحرُسُك، وأنت تحرُسُ المال). 

فتعلُّم علوم الدين من منابعها الصافية، ومن أهلها العُدول الصادقين، مع حُسن التطبيق، هو الحارسُ من كلِّ أنواع التطرف البغيض. ونشرُ الحقائق الإيمانية سليمةً كما وردت في كتاب الله تعالى، وكاملةً كما علَّمَناها رسولُنا الهادي عليه الصلاة والسلام، من غير تحريف ولا تبديل، هو خيرُ سبيل لتبصير الناس بخطر الغلوِّ والتطرف وأصحابهما الذين زيَّفوا المفاهيم، وغيَّروا دلالات المصطلحات، وفسَّروا آيات الله تعالى بما لم يُنزل من سلطان، وأنزلوا أحاديثَ رسول الله عليه الصلاة والسلام على آرائهم الخاصَّة الضيِّقة، وإسقاطاتهم الواهنة الواهية التي لم يتكلَّم بها الربَّانيون من السَّلَف، وأنكرها من بعدهم أهلُ العلم من الخَلَف.

إن هؤلاء المتطرفين ضيَّقوا واسعًا وعمَدوا إلى أشدِّ الآراء، فإذا رُوجعوا قالوا: نأخذ بذلك لسدِّ الذرائع والاحتياط وإقفال باب الفتنة، وكأنهم أحرَصُ على الشريعة من صاحب الشريعة، وحسِبوا أن التقوى عُبوسٌ وتجهُّم، حتى أصبحوا فتنةً جوَّالة في الأرض.

لكنَّ نور شمس العلم يبدِّد دياجيرَ الجهل، ويُسقط الأفكار السُّودَ التي أتى بها المتطرفون وزيَّنوها للناس، وذلك عندما يكون أهلُ الحقِّ متماسكين متعاضدين، ينشرون الحقَّ ويعمِّمون المفاهيمَ الإيمانية الموافقة للعقل السليم. فالحقُّ له ألفُ حجَّة تنصره، والباطل ليس له دليلٌ واحد ينهض به، بل ما يُظنُّ دليلًا له، إنما هو حُجَّة عليه شاهدة على بُطلانه.

والاعتناءُ بالمناهج التربوية على طريقة أهل السنَّة والجماعة في المدارس والجامعات يُرسخ الاعتدالَ في نفوس الأجيال، وذلك ضروريٌّ لمنع تسرُّب التطرف إلى أوساطنا ومجتمعاتنا. ولا بدَّ من الاهتمام بمراقبة المطبوعات والمنشورات، والتصدِّي لكلِّ متشدِّق متطرف، وكشف زيفه بالدليل والحجَّة والبرهان على الملأ، ومنع فتح المجال للفكر المتطرف من أن يبثَّ سمومه في المدارس والجامعات، والمساجد والمصلَّيات، والمنتديات والمؤتمرات، والصُّحف والمجلَّات، والكتب والمحطَّات، والإذاعة والفضائيات، ومواقع الإنترنت والمِنصَّات، تحت شعارات برَّاقة من حرية الفكر وحرية العقيدة وحرية التعبير والرأي الآخر والتجديد. وهذا هو سبيلُ تحقيق الأمن الثقافي والاجتماعي لأبنائنا ومجتمعاتنا. 

فيجب المسارعةُ إلى مباغتة المتطرفين في أوكارهم، قبل أن يُفسدوا علينا ديارنا، وقد خرَّبوا بعض الديار، فالحربُ على التطرف لا هَوادةَ فيها ولا تراجع؛ لأنها حربٌ مصيرية لأمتنا، وعلينا أن نمضيَ إلى آخر النفق حتى نخرجَ إلى النور، متسلِّحين بالعلم والعمل والنُّصح، وبالعزم والتجلُّد والصبر، فعمليةُ الإصلاح تحتاج إلى وقتٍ وجهد وتـعاون، وتعاضُد وصبر واصطبار.

حقيقة الخلاف
الخلافُ مع أصحاب الفكر المتطرف الهدَّام ليس ثانويًّا أو هامشيًّا في القشور، إنما هو خلاف جوهريٌّ في الأصول، فلهم أصولهم وقواعدُهم الخاصَّة التي أوصلتهم إلى تلك الانحرافات الشنيعة، وجعلتهم كالسَّرطان في جسد الأمَّة قديمًا وحديثًا؛ لذلك لا يُسكَت عنهم أبدًا، فالساكتُ عن الحقِّ شيطان أخرس. ويقتضي ذلك من العقلاء وأهل الفضل التحرُّكَ بهمَّة وصدق وَفقَ منهج واضح سديد؛ لتحصين أبناء مجتمعاتنا بشتَّى الطرق والوسائل. إن المسلمين يريدون أن يفهموا دينَ الإسلام كما أنزله الله سبحانه، وكما بلَّغه رسولنا محمَّد عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام، وكما فهمه الصحابة الكرام، وكما فهِمَه أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وسائر الأئمَّة الأعلام، لا كما فهمه أصحابُ الآراء الشاذَّة والأفكار المتطرفة، من مُشبِّهة ومعطِّلة ومعتزلة وخوارج، الذين عادت مذاهبُهم الفاسدة إلى الانتشار لأسباب من أبرزها السكوتُ عنهم، مما ترك لهم الساحةَ فارغة حتى كسَبوا الولاء، ثم جنَّدوا من شاؤوا لتحقيق مآربهم. فدينُ الله تعالى ليس مَشاعًا لكلِّ ذي لسان يخوض فيه برأيه الخاصِّ على غير هدًى ولا نور!

ولن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمَّة إلا بما صَلَح به أولها، فقد قال الحبيبُ المعلِّم عليه الصلاة والسلام: (تركتُ فيكم أمرَين لن تَضِلُّوا ما تمسَّكتُم بهما؛ كتابَ الله، وسُنَّة نبيِّه). إن العلم الشريف يؤخَذ من أهله الثقات، بالتلقِّي مشافهة، فقد روى الإمامُ مسلم في مقدِّمة صحيحه، عن محمد بن سِيرين قال: (إنَّ هذا العِلمَ دِين، فانظُروا عمَّن تأخذونَ دينَكُم). فاختيارُ المعلِّم الثقة له الأثرُ الأكبر في التربية الفكرية والأخلاقية والسُّلوكية.

المعالجات والحلول
يتساءل كثيرون؛ ما سُبلُ معالجة التطرف الذي يشوِّه سمعةَ الإسلام، وينشر الرعبَ والعنف والدَّم في بلادنا؟ والجواب عن ذلك السؤال بمعرفة أن المواجهةَ المؤثِّرة تكون بالآتي: 
  1. كشف أستارهم بنشر العلم الصحيح، علم أهل السنَّة والجماعة. 
  2. تجريدهم من أقنعتهم. 
  3. إقامة الحجَج الساطعة والبراهين القاطعة عليهم.
  4. بيان بُطلان ما يذهبون إليه، وفسادِ ممارستهم المستنِدة إلى أفكارهم السُّود، وتحريفهم لمعاني الشرع الحنيف.

إن الحرب على التطرف حربٌ علمية، ولا بدَّ أن ترافقَها تدابيرُ وقائية؛ بمنعهم من التحصُّن بالمناصب التي تُتيح لهم التحرُّكَ والتحدُّثَ زُورًا وكذبًا باسم الإسلام، والحيلولةِ دون إفسادهم المنابرَ المخصَّصة لنشر حقائق الإسلام ومفاهيمه البعيدة كلَّ البُعد عن الغلوِّ والتطرف.

والعلماء والمشايخ والدُّعاة والأساتذة والدكاترة المعتدلون هم خطُّ المواجهة الأول والدفاع الأقوى، وتبقى الأمَّة بخير ما بقيَ متماسكًا متصدِّرًا، فإن تصدَّع أو أُخِّر أصبح الطريقُ أمام المتطرفين مُعبَّدًا، وأهدافهم ميسَّرةً سهلة التحقيق.

ولا يخفى أثرُ الجهات الحكومية والسُّلطات الرسمية في الحدِّ من استفحال ظاهرة التطرف؛ بمنع كلِّ من تبنَّى الفكر المتطرف من الوصول إلى مواقع التأثير في الجماهير، فليس من المقبول إتاحةُ المجال أمام هؤلاء المتطرفين بدعوى الحرية؛ لأن الذين يهدِّدون المصلحةَ العامَّة وأمنَ الأمَّة تحت ستار الحرية يُعَدُّون خطرًا لا تُحمَد عواقبه، ولا يُستطاع تداركُه في كثير من الأحيان، وقد ظهر أثرُ ذلك ملموسًا في الواقع الـمُعاصر، ولا يُلدَغ مؤمنٌ من جُحر مرَّتين.

أسباب التطرف
ليس للتطرف سببٌ واحد، بل أسبابه شتَّى؛ منها تاريخية واجتماعية ونفسية وسياسية، وتكون أحيانًا متشابكةً ومتداخلة، فلا ينبغي أن نقصِّرَ في معالجة سبب أو نتركَ آخر، وعلينا معالجةُ هذه الأسبابِ بالحكمة والجرأة المطلوبة، مع الإشارة إلى أن الجهل يُحارَب بالعلم، والتطرفَ بالاعتدال، والباطلَ بالحقِّ. إن الالتزام الدينيَّ الصحيح حلٌّ للعصبية الذميمة التي تجتاح المجتمعات، ولا تتأتَّى هزيمتُها إلا بذلك السلوك السامي الذي يُستفاد من التديُّن الصافي من كلِّ الشوائب، وإن العدوَّ المتربِّص لن يهزمَه إلا الالتزامُ بالشرع وتعاليمه، فالعلم الدينيُّ السليم يُنجي من كل أنواع الغلوِّ والتطرف.

روى البخاري أن حذيفةَ بن اليَمان رضي الله عنه قال: كان الناسُ يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشرِّ؛ مخافةَ أن يُدركَني، فقلت: يا رسولَ الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعدَ هذا الخير من شرٍّ؟ قال: (نعم). قلت: وهل بعدَ ذلك الشرِّ من خير؟ قال: (نعم، وفيه دَخَنٌ). قلت: وما دَخَنُه؟ قال: (قومٌ يَهْدُونَ بغير هَديي، تَعرِفُ منهم وتُنكر). قلت: فهل بعدَ ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: (نعم، دُعاةٌ على أبواب جهنَّم، مَن أجابهم إليها قذَفوه فيها). قلت: يا رسولَ الله، صِفهُم لنا، قال: (هم من جِلدَتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرُني إن أدركَني ذلك؟ قال: (تَلزَمُ جماعةَ المسلمين وإمامَهُم). قلت: فإن لم يكُن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: (فاعتَزِل تلكَ الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حتى يُدرِكَكَ الموتُ وأنت على ذلك). 

إن ظاهرة التطرف تُختصَر في أربعة أمور: داء ودواء، ومريض وطبيب؛ فالداء هو التطرُّف، والدَّواء هو التوسُّط والاعتدال، ولا يكون إلا وَفقَ منهج أهل السنَّة والجماعة. والمريض: هو المتطرِّف، والطبيب: هو المعلِّم الموجِّه المربِّي على هدى خير الخلق سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم.