شغَلَ الموتُ الفلاسفةَ والمفكِّرين على مرِّ العصور، وبات موضوعَ جدل في الفكر الإنساني منذ أقدم مراحل الوعي، ولئن أجمعوا على أنه مصيرٌ محتوم لكلِّ كائن حي، لا مفرَّ منه ولا مندوحةَ عنه، فإن التساؤلاتِ التي تُثار في فكِّ الغموض الذي يلفُّ هذا المصير، وعدمَ معرفة موعدٍ دقيق، أو سبب محدَّد له، والفرَضياتِ المتباينةَ بتبايُن الأديان والعقائد والثقافات عن المصير بعد الموت، لا تزال قائمةً إلى يوم الناس هذا.

الموت امتدادًا للحياة
ليس الموتُ نهايةً للحياة في مختلِف الأديان والمعتقدات السماوية؛ بل حتى في كثير من العقائد الفكرية الأرضية، وإنما هو امتدادٌ لها واستمرار، وهذا إيماٌن منطقي، وله ما يدعمه نقلًا وعقلًا. ومنذ القِدم كان الموت موضع تأمُّل؛ إذ تفاعل معه الإنسانُ بممارسات و«طقوس» أظهرت مستوى فهمه وتصوُّره له، وحاولت الأساطيرُ والفلسفات القديمة والحديثة أن تجيبَ عن بعض الأسئلة التي أثارها الموضوع. وصار نقطةَ التقاء عددٍ من التخصُّصات؛ الأدبية، والفلسفية، والنفسية، وموضوعَ بحث ودراسة في حقول علم الاجتماع، وعلم الإنسان الاجتماعي «الأنثروبولوجيا»، والتاريخ.

أما أبرزُ من كتبوا في الموضوع فكان عالمَ «الأنثروبولوجيا» الأمريكي إرنست بيكر، الذي قضى حياته في دراسة العَلاقة بين علم النفس وعلم الإنسان، وهو مؤلِّف كتاب (إنكار الموت) عام 1973م، الذي يرى أن الدافعَ الحقيقي إلى سلوك الإنسان هو الخوفُ من الموت. فالإنسان هو الكائنُ الوحيد الذي يُدرك أنه سيموت، وبسبب ذلك الإدراك - على خلاف بقية الكائنات - تطوَّر الوعيُ والضمير لدى كلِّ فرد لمراقبة أفعاله، ومدى أهميتها حين توضَع أمام الموت. ولذلك اضطُر الإنسان على مدى الأجيال إلى التعلُّم واكتساب الحكمة؛ حتى يتمكَّن من تجنُّب الموت، والبقاء على قيد الحياة أطول مدَّة ممكنة.

ويرى بيكر أن الإنسان تعامل مع الموت وَفق ثلاثة مسارات تصنِّف الإنسان بحسَب قَبوله لفكرة الموت، وهي:
  • المسار الأول: الإنسان المغيَّب عن فكرة الموت، أو المنشغل عنها بهموم الحياة والعمل والرَّتابة اليومية. وهذا الانشغال طريقٌ للهرَب من التفكير في الموت ومصير الإنسان بعده. وتتفاقم الأزمةُ حين تختلُّ رتابة الحياة فجأة بمرض عُضال، أو خسارة كبيرة، أو فِقدان العمل، هنا تعمُّ الفوضى النفسية، ويصير الإنسان نَهْبًا للقلق والأمراض النفسية، والأوجاع الجسدية، ويقف حائرًا واجمًا أمام فكرة الموت والفناء.
  • المسار الثاني: الإنسان المتمرِّد الذي يحاول دومًا الهرَب من ضعفه، وتجاهل فكرة الفناء؛ بادِّعاء القوة والسعي نحو مواردها؛ السُّلطة والمال والجاه والنفوذ، مما يعرِّضه للسقوط والفجيعة على حين غِرَّة، إذ إنه سَرعان ما يُصدَم بحقيقة ضعفه وعَجزه وقلَّة حيلته، فينتهي به الأمر إلى الجنون أو الانتحار.
  • المسار الثالث: الإنسان المؤمن الذي يتقبَّل حقيقة الموت والفناء، ويُلقي بضعفه على قوة عُليا، يحاول الارتباطَ بها، والاستناد إليها. أي إن الإيمان هنا هو القوةُ المضادَّة للموت نفسه. ويترك «بيكر» طبيعةَ الإيمان مفتوحة، فأيُّ ارتباط بقوة عُظمى يكفي للتعامل مع حقيقة الموت وفجيعته.

الموت والإرهاب
تستثمر الجماعاتُ الإرهابية المتشدِّدة في الموت أكثرَ من استثمارها في الحياة، ويكاد يكون الموت العنصرَ الأبرز في خطابها الإعلامي؛ فالموتُ سبيل الخِزي والعار للكافر أو المرتدِّ في سياق الردع والحرب المعنوية، وسبيل الخلود للمؤمن الصادق في سياق الحشد والتجنيد. 

ويتجلَّى توظيفُ الجماعات الإرهابية للموت في اعتماد تنظيم داعش الإرهابي على الانتحاريين في شنِّ هجَمات شاملة وواسعة النطاق، وتقديم جنوده إلى الموت بأعداد غفيرة. على سبيل المثال: قُتل في معارك «الطبقة» في سوريا أكثرُ من 400 مقاتل في يومين فقط. ويدرِّب التنظيمُ الأطفالَ خارج الدوام الدراسي، ويعرِّضهم إلى عنفٍ شديد، ويُنتج أشرطة تدريبية لتشجيع المراهقين الشباب على القتال. ووَفقًا لأحد أعضاء تنظيم داعش، يهتمُّ التنظيم بتدريب الأطفال لأنهم في سنِّ الخامسةَ عشرة والسادسةَ عشرة غيرُ قادرين على تقويم المخاطر، وهم أكثرُ استعدادًا للمشاركة في عمليات انتحارية.

ويرى الأديبُ المعروف جورج أورويل أن الكائن البشري لا يميل إلى الدَّعة والراحة والسلامة فحسب؛ بل لديه رغبةٌ كبيرة في النضال والتضحية بالنفس، وقد وعى هتلر هذه الفكرة، لذا نراه يقول لأتباعه في إحدى خُطبه: «أنا أقدِّم لكم فرصةَ النضال والخطر والموت». وهذه اللغة التي تثير مكامنَ النفوس وتخاطب العقل الباطن استخدمها زعيمُ تنظيم داعش أبو بكر البغدادي في خُطبته الشهيرة بمسجد النوري في مدينة المَوصِل، حين قال: «إني لا أعدُكم كما يعدُ الملوك والحكَّام أتباعهم ورعيتهم من رَفاهية وأمن ودَعة ورخاء». 

والسؤال المهم، كيف تتمكَّن التنظيماتُ الإرهابية من تحويل الموت إلى لوحة فنية جاذبة لآلاف الشباب من أتباعها، الذين يُقادون إلى الموت راضين، يحدوهم الأملُ بالمجد الخالد؛ إذ صار الموت لديهم مجرَّدَ باب عبور إلى العزَّة والخلود؟

ويجيب عن هذا السؤال إيريك هوفر في أطروحته المتينة التي قدَّمها في كتاب (المؤمن الصادق)، فهو يرى أن القتل والموت يصيران أسهلَ عندما يصبحان جزءًا من مشهد تمثيلي درامي في مسرحية. ولا بدَّ من سعة الخيال لكي يستطيعَ الإنسان مواجهة الموت بلا تردُّد. إن للخيال أثرًا في تلطيف قسوة القتل والموت، ويتَّضحُ هذا أكثرَ ما يتضح في حالة الجماعات المسلَّحة والعسكرية. إن الملابس العسكرية والأعلام والشِّعارات والاستعراضات والموسيقا والإجراءات الصارمة والقواعد المحكمة، كلُّها وسائلُ لفصل الجندي عن نفسه الحقيقية المكوَّنة من لحم ودم، وطمس حقائق الموت والحياة لديه. وليس من قَبيل المصادفة أننا نتحدَّث عن «مسرح الحرب» وعن «مشاهد المعارك».

وعن الاستعداد للتضحية بالنفس يقول هوفر: «إن الاستعداد للتضحية بالنفس يعتمدُ على مدى تجاهل المرء لحقائق الحياة. لذا تلجأ الجماعاتُ إلى وضع حجاب بين أتباعها وحقائق العالم، وهي تحقِّق هذا الهدفَ بتصوير عقيدتها في صور الكمال المطلَق، الذي لا حقيقةَ أو يقينَ سواه، والحقائقُ التي يبني عليها المؤمنُ الصادق النتائج لا تجيء من التجرِبة أو من الملاحظة، ولكنَّها تنبع من نصٍّ مقدَّس، والأدلَّة المستقاة من الحواس تُعَدُّ في هذا المنطق هرطقةً وخيانة».

وتعزِّز حالة الفوضى في الأخلاق والقِيَم تجاهلَ المرء لحقائق الحياة، وهذه الفكرةُ نجد لها حضورًا لدى عالم النفس إيميل دوركايم، في قوله: «باتت حالةُ الفوضى في المجتمعات الحديثة عاملًا منتظمًا ونوعيًّا من عوامل الانتحار؛ إذ يغيب حضورُ المجتمع في حياة الفرد، ويغيب ضبطُ الأهواء الجامحة ونزَعات الأفراد. وحين يتدرَّب الفرد على الاستهانة بحضوره الخاص، فلن يقدِّرَ كثيرًا وجودَ الآخرين».

ومن هنا فإن أهمَّ واجبات القائد في الجماعات الإرهابية طمسُ حقيقة القتل والموت المرعبة؛ بأن يغرسَ في نفوس أتباعه الوهم من أنهم يشاركون في منظر باهر، في مشهد من مشاهد المسرحية المثيرة. وإن اعتقاد المؤمن الصادق عِصمةَ العقيدة التي يعتنقها تجعله لا يقيم أيَّ وزن للشكوك أو المفاجآت أو الحقائق غير السارَّة التي يمتلئ بها العالم من حوله.

الموت والتجنيد
من النماذج الحاضرة عند الحديث عن مشاهد الموت لدى الجماعات الإرهابية تلك المقاطعُ والصور التي تحضُر بكثرة لجنودٍ ومقاتلين ترتسم على وجوههم ابتساماتٌ هادئة بعد الموت، تصبُّ تفسيراتها في الاستدلال على صلاح الميت وصدقه وصحَّة معتقداته، ولا سيَّما حين يكون ذلك في مشهد ملحمي، تصاحبه شعاراتُ القضية المقدَّسة.

وتستغلُّ الجماعات الإرهابية هذه الابتسامةَ وتستخدمها في تسويق خطابها الفكري، وتستدلُّ بها على صواب معتقداتها. ويزيد تأثيرُ هذ الخطاب حين يقترن بجاذبية الصورة، وخطاب الموت المقدَّس، وما يجده «الشهيد» من الخلود بعد رحلته الملحمية.

ولذلك تقدِّم مواقع التواصل الاجتماعي القنواتِ التي تصل بها الرسالةُ إلى جمهور المستهدَفين، وبها يمكن مشاهدةُ عشرات المقاطع المصوَّرة المنتشرة لتلك الابتسامة، مع تعليقات تتصل بالجماعات التي ينتمون لها؛ لأن مواضيع الشهادة والشهداء والموت في سبيل الله لها حضورٌ قوي في وعي الإنسان المسلم؛ فإن تأثير الرسالة يكون أكثر عمقًا وأبعد مدًى لدى الشباب، وإن كان استخدامها في سياق مضلِّل تمامًا.

لكن هل الابتسامةُ المرتسمة على وجوه القتلى تعني بالضرورة حُسنَ سيرة الميت، وصواب سلوكه في حياته، وصحَّة معتقداته ومبادئه؟ وهل هي دليل قاطع على حُسن خاتمته، والنعيم المقيم الذي ينتظره؟

إن كان الأمر كذلك، فكيف يمكنُ تفسير التباين الكبير؛ بل التناقض بين أتباع الأديان والمعتقدات والأفكار، في مواقفهم من عدد كبير من الموتى قد ارتسمت على مُحيَّاهم ابتسامةٌ وديعة بعد الموت؟ وكلُّها صور متوافرة في مواقع الإنترنت، ومن أشهرها الصورةُ التي التقطها الصَّحَفي مارك هوتان، التي يظهر فيها الثائرُ الكوبي إرنستو تشي غيفارا بعد مقتله، ممدَّدًا بزيِّه العسكري، عيناه مفتوحتان، وعلى شفتيه ابتسامة هادئة. أتباع غيفارا يمكنهم أن يستدلُّوا بها على صحَّة أفكاره ومبادئه التي طالما نادى بها، لكن ماذا عن أصحاب المعتقدات الأخرى؟

وقد شغلَ موضوع الابتسامة كثيرين، منهم الباحثةُ الدكتورة ماريان لافرانس في كتابها الذي نُشر عام 2011م بعنوان: (لماذا نبتسم؟ السرُّ العلمي وراء تعابير الوجه) وتقول فيه: «إننا نجد على وجوه بعض الأموات ابتسامةً مرسومة على شفاههم، والموضوع له أكثرُ من تفسير، فالدماغ البشري بطبيعته يخزن الإشارات، ولا سيما المتكرِّرة منها والمرتبطة بالعادات والممارسات اليومية ومنها الابتسامة. ومن ثَمَّ فإن الشخص الذي تعوَّد الابتسام قد تكون هذه آخرَ الإشارات التي يرسلها دماغُه إلى عضلات وجهه عند الموت؛ فيموت مبتسمًا».

وتوضِحُ لافرانس أن هناك سببًا آخرَ لاحظه باحثون في دراسات «نظرية إدارة الرعب» التي تفسِّر طبيعة البشر في التخلُّص من التفكير في الموت، والقدرة على طرد فكرة الموت أصلًا، وتوصَّلوا إلى أن التفكير في قيمة الموت يتحقَّق بواسطة الاعتقاد الديني، بغضِّ النظر عن تفاصيل المعتقَد، وعلى هذا تكون تعابير مَن يؤمن بالموت أكثرَ ارتياحًا في اللحظات الأخيرة، وتظهر على بعضهم ملامحُ الابتسام.

وهذا يعني أن ابتسامة الإنسان عند موته قد تدلُّ على شجاعته، أو إيمانه المطلق بمعتقَداته أيًّا كانت، ورضاه عن نفسه. وقد تدلُّ على عاداته الإيجابية التي ألِفَها كالتبسُّم الدائم، أو استعداده للموت وقَبوله به، ولكنَّها لا تعني بالضرورة صحَّة معتقده، أو صوابَ الراية التي ينضوي تحتها، أو قَبوله عند الله تعالى.

وعلى الرغم من أن الموتَ يعني مفارقةَ الروح البدن، وزوالَ الحياة عن الكائن الحي، أو كما يقول أهل الشريعة: عندما يصبح البدن غيرَ أهل لبقاء الروح فيه. على الرغم من كلِّ هذا يبقى للموت خصوصية، تثير في الإنسان كثيرًا من التأمُّلات، وتُستغَل لتكون عاملَ بناء وتماسك للجماعات الإرهابية، وفي الوقت ذاته تكون عاملَ تدمير وفناء للمجتمع كلِّه.