اتجهت دولُ غرب إفريقيا إلى المواجهة العسكرية في ظلِّ استفحال ظاهرة الإرهاب الدَّولي العابر للحدود، واستفادته من العولمة وثورة الاتصالات التقنية، مما قلَّص الحدود بين الدول، لكنَّ هذه المواجهة لم تنجح في صدِّ الهجَمات الإرهابية، ومنع الإرهاب من التوسُّع في عملياتِه باتجاه دول المنطقة الممتدَّة على مساحات شاسعة. من هنا تبرز مُعضلات الحلول العسكرية في هذه المنطقة، وكيفية تجاوز تلك العقبات والمشكلات، وهو ما سنعرض له في السطور الآتية.

معضلات إخفاق الحلِّ العسكري

إن مواجهةَ الإرهاب في غرب إفريقيا عسكريًّا لم يكن أمرًا يسيرًا؛ إنما كانت المواجهة دومًا مُحاطًة بكثير من التحدِّيات والمشكلات التي اعترضت سبيلَ الحلِّ العسكري، وحالت دون نجاحه وفاعليته، لأسباب منها:

1. الصراعات المتداخلة

تتداخل الصراعاتُ في غرب إفريقيا في معظم الأحيان، فنجد نزاعاتٍ قائمةً بين الجماعات والتنظيمات العِرقية المختلفة، وبين الجماعات الإرهابية والحكومات، حتى إن الخطوط الفاصلةَ بين الإرهابيين أصبحت غيرَ واضحة، وهذا التماهي يعقِّد مواجهةَ الإرهاب كثيرًا، ويجعل المراقبين يُخفقون في تحديد خريطة واضحة لما يجري، بناءً على واقع الجغرافيا، والظروف المحلِّية؛ مما أدَّى إلى مشكلات كبيرة ومتكرِّرة، ولا سيَّما مع التحولات المستمرَّة في الوضع الأمني والسياسي في المِنطَقة، والإخفاق في محاولة تعيين الأعداد الكبيرة لهذه المجموعات المتناحرة للسيطرة على الأرض. مع ما يمتاز به الصراعُ في المنطقة من منافسات قديمة عنيفة غالبًا، وعمليات اتِّجار، وأنشطة دفاع عن النفس، فضلًا عن الإرهاب العنيف. في حين يكتسب اللَّبْس بين الجهات الفاعلة غير الحكومية - التي يُفترَض أنها جماعاتٌ منفصل بعضُها عن بعض - أهميةً إضافية، ولا سيَّما مع المعونة التي قدَّمتها فرنسا إلى "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"؛ للمساعدة في قتال الجماعات الإرهابية.

2. الخريطة الإرهابية المعقَّدة

تزيد الخريطةُ المعقَّدة للإرهاب المعضلاتِ في المنطقة؛ إذ ينصبُّ نشاط التنظيمات الإرهابية في المناطق الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في مِنطَقةٍ باتت مركزَ نشاط المجموعات المتطرفة العابر للحدود حاليًّا، وهذا النشاط خليطٌ من جماعات مسلَّحة مختلفة، أهمها تنظيما داعش والقاعدة الإرهابيان. ففي مارس 2017م أعلنت الجماعاتُ الرئيسة في المنطقة، وهي: أنصار الدِّين، وجبهة تحرير ماسينا، وتنظيم "المرابطون"، وجناح الصحراء التابع لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، أنها كوَّنت تحالفًا تحت لواء الكِيان الجديد "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، التي أعلنت نفسَها جناحًا رسميًّا لتنظيم القاعدة في مالي.

وكانت أُسِّست "جماعة بوكو حرام" في شمالي نيجيريا عام 2002م، وتطوَّرت إلى تمرُّدٍ عنيف عام 2009م، أدَّى إلى مصرع ما لا يقلُّ عن 25000 شخص، ونزوح مئات الآلاف، وهي تنشَط في نيجيريا وشمال الكاميرون والنيجر وتشاد.

وأُنشِئ "تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى" عام 2015م، وانضوى تحت لوائه "حركة التوحيد والجهاد في غربي إفريقيا"، التي حظيت باعترافه في العام اللاحق فرعًا رسميًّا له في المنطقة. 

وبرزت "جماعة أنصار الإسلام" في بوركينا فاسو منذ ديسمبر 2016م، عندما أعلنت مسؤوليتَها عن هجوم على قاعدة عسكرية في إقليم سوم شمالَ شرقيِّ البلاد، أسفر عن مقتل 12 عضوًا في وَحدة مكافحة الإرهاب.

وتتداخل في هذه المنطقة أيضًا عملياتُ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتنشَط "جبهة تحرير ماسينا" التي تضمُّ مختلِفَ مكوِّنات أزواد العِرقية.

وأما فصيلا "التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا" بقيادة أحمد ولد العامر، و"الموقِّعون بالدماء" بقيادة مختار بلمختار، فقد اندمجا في أغسطس 2013م تحت اسم "المرابطون"، وبعد مقتل أمير الجماعة أحمد العامر بايع خليفتُه أبو الوليد الصحراوي في مايو 2015، تنظيمَ داعش. مما دفع مختار بلمختار إلى المسارعة بإصدار بيان مضادٍّ ينفي فيه الالتحاقَ بتنظيم داعش، ويجدِّد البيعة لتنظيم القاعدة وزعيمه أيمن الظواهري، عادًّا بيعةَ داعش باطلة، ولا تلزم مجلس شورى المرابطين. وأدَّى ذلك إلى تصاعد حدَّة الصراع بين الطرفين، الذي انتهى بالإطاحة بأبي الوليد الصحراوي وتولِّي بلمختار القيادة. 

​​​moag1ar.png

moag2ar.png

​3.  الجهات الفاعلة من غير الدول

ومما يزيد الأمر تعقيدًا أمام الحلول العسكرية أيضًا وجودُ جهات فاعلة كثيرة غير حكومية، ومن ذلك على سبيل المثال "مجلس تنسيق حركات أزواد"، وهو تحالفٌ فضفاض من حركات التمرُّد السابقة ذات المصالح المشتركة، و"ائتلاف الجماعات المسلَّحة" ويضمُّ "جماعة طوارق إمغاد" وحلفاءهم، وهي فرعٌ من "الحركة العربية لأزواد"، و"مجلس تنسيق الحركات وجبهة المقاومة الوطنية". ومن هذه الكِيانات أيضًا: "تحالف إفوغاس لعشائر الطوارق"، و"المؤتمر من أجل العدالة في أزواد" في منطقة تمبكتو، و"حركة إنقاذ أزواد" في منطقة ميناكا، و"الجناح المنشقُّ عن مجلس تنسيق الحركات وجبهة المقاومة الوطنية". 

ومع إنشاء مجموعات الحماية الذاتية Vigilante في نيجيريا والكاميرون والنيجر وتشاد، أُثيرت المخاوف بشأن أثرها في تعقيد الوضع، وَفقَ ما جاء في تقرير لـ "مجموعة الأزَمات الدَّولية" الذي صدر في فبراير 2017م، بشأن هذه الظاهرة في منطقة بحيرة تشاد.

4.  هشاشة بُنى المجتمعات

تُسبِّب أخطار انتشار الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا إخفاقَ الحلول العسكرية، ويحدُث ذلك لعدم خضوع مناطقَ شاسعة من تلك البلدان عمليًّا لسُلطة الدولة. ولا سيَّما تلك المناطق التي تعدُّ من أكثر المناطق فقرًا في العالم، مع وجود اختلاف قَبَلي وديني أثَّر في بسط سُلطة الدولة على معظم أرجائها.

5.  ارتفـاع نِسَـب الفقـر 

أسهم الفقرُ بقِسْط وافر من المشكلات والصراعات السياسية والاجتماعية في تلك المنطقة، وأضعف الحلولَ العسكرية؛ وأدَّى إلى بيئة مناسبة لتمدُّد الإرهاب في دول غرب إفريقيا، مع اتساع فجوة المعرفة بين مُخرَجات النظُم التعليمية وأسواق العمل، وتدهور حقوق الإنسان وقيم العدالة، فضلًا عن تضاؤل فرص المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتدهور الوضع البيئي، وعدم الاستقرار السياسي، وكثرة الحروب والصراعات، والانقلابات العسكرية.

وأدَّى ارتفـاعُ معدَّلات الفقـر فـي ظـلِّ زيادة عـدد السـكَّان في دول غرب إفريقيا إلى انتشار الإرهاب على نحو واسع، فوَفقًا لإحصـاءات الأمـم المتحـدة تعـدُّ النيجـر ثـانيَ أفقـر دول العـالم بنسبة %63، في حين تبلغ نسبةُ الفقر في تشـاد أكثـر مـن %80، وفي مـالي %64، وفي موريتانيـا %40، وهـذا يرجـع إلـى طبيعة المنطقة التي يغلب عليها التصحُّر والجفاف الناتجان عـن قلَّة المطر. إذ يحتاج أكثرُ من 13 مليون نسَمة في دول المنطقة إلى مساعدات إنسانية طارئة، بزيادة خمسة ملايين شخص عن العدد المسجَّل في بداية العام.

6.  التداخل العِرقي والقَبَلي

تتَّسمُ منطقة الغرب الإفريقي بتعدُّد التوجهات المتطرفة بين العشَرات من القبائل، وهذا ما جعلَ فيها تداخلًا بين ما هو قبَلي عِرقي، وبين ما هو فكري عَقيدي، وجعلَ المنطقة بؤرةً نشيطة ومتنوعة لجماعات إجرامية وتنظيمات إرهابية شتَّى اختلفت في الأفكار والرؤى، والأهداف والغايات، مما أسهم في إخفاق المواجهات العسكرية.

على سبيل المثال: كان يُنظَر فيما مضى إلى "الطوارق" في مالي على أنهم دِرعٌ واقية من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ومن التطرف الإرهابي في الشَّمال، لكنَّ جماعة أنصار الدين التي أُسِّسَت عام 2012م رفعت في البداية رايةَ تمرُّد الطوارق، ثم عادت لتتبنَّى أفكارًا متطرفة في عام 2017م. وفي ذلك تقول الباحثةُ في الحركات المتشدِّدة في إفريقيا جولي كولمان: إن عددًا كبيرًا من مواطني تلك الدول يعتقدون أن القاعدة وداعش هما قوَّتان أو حزبان معارضان يعوِّضان غيابَ الديمقراطية، وأن الانضمام إلى أيٍّ منهما قد يكون رسالةً تجاه قمع المعارضة القانونية في البلاد.

7.  أثر ازدياد الجريمة المنظَّمة

مكَّنت المساحاتُ الممتدَّة الخارجة عن سُلطة الدولة في منطقة الغرب الإفريقي من ازدهار النشاط الإجرامي في المنطقة، ولا سيَّما مع تواطؤ بعض المسؤولين، واستعداد الحكومات الغربية دفع الفِدى، مما أسهم في اتساع جريمتَي الخطف والتهريب منذ عام 2003م، ومن ذلك تهريبُ صمغ الحشيش المغربي والكوكايين. 

واستغلَّت بعضُ القيادات في مالي الاضطراباتِ لممارسة نفوذها؛ فعندما اختُطف السيَّاح الأوروبيون في عام 2003م، اعتمدت حكومةُ مالي والحكومات الأوروبية على رجُلين هما: إياد أغ غالي زعيم الطوارق والمتمرِّد السابق ورئيس جماعة أنصار الدين المرتبطة بتنظيم القاعدة، ورئيسُ بلدية تركنت بابا ولد الشيخ، ليكونا وسيطَين في المفاوضات الخاصَّة بدفع الفِدية. 

ومع مَطلَع عام 2008م، ازدهرت هذه التجارةُ أكثر عندما أظهرت شخصيَّاتٍ إرهابيةً وسطاءَ في قضايا الرهائن، مع وجود أدلَّة دامغة على أن هؤلاءِ الإرهابيين الوسطاء استحوذوا على جزء كبير من مبالغ الفِدية، وتقاسموه مع السياسيين الذين وفَّروا لهم الحماية. فزاد التداخلُ بين الإرهاب الفكري والجريمة المنظَّمة والسياسيين الفاسدين؛ بحثًا عن المال والتمويل، مما أسهم أيضًا في ضعف المواجهات العسكرية وإخفاقها.

تجاوز الحلول العسكرية 

إن حلولَ مكافحة الإرهاب في دول الغرب الإفريقي كانت قائمةً على الجهود العسكرية، وكان أهمُّ تلك الجهود اتفاقيةً عقدتها مجموعة دول المنطقة في شهر فبراير 2014م، في العاصمة الموريتانية نواكشوط. تضمَّنت تكوينَ قوة مكوَّنة من 3000 جندي لمواجهة التنظيمات الإرهابية. ثم شهدنا إنشاء قوات "تاكوبا"، وهي قوةُ مهام جديدة أحدثتها فرنسا وعددٌ من حلفائها الأوروبيين والأفارقة، وأيضًا قواتُ الخوذ الزرقاء، وهي قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

ومما تقدَّم يتبيَّن أن دول الغرب الإفريقي تحتاج إلى حلول تتجاوز الجهود العسكرية، إلى أخرى متنوعة، وسيكون ذلك وَفقَ الخطوات الآتية:

 أ- جمع المعلومات: 

لا بدَّ من إعداد شبكة معلومات إلكترونية وبشرية عن الجماعات المتطرفة والأفراد المتطرفين، تحتوي على معلومات دقيقة عن عناصر الضَّعف والقوة لدى هذه التنظيمات والجماعات الإرهابية، إضافة إلى اعتراض مراسلاتها، وجمعها وتحليلها، ثم تقويمها، للوصول إلى التنبُّؤ الدقيق بشأن ما يمكن فعله، ولا سيَّما ما يتعلَّق بطرائق التجنيد والانضمام، وأماكن التدريب، والمرجعيات الفكرية، ومصادر التمويل والتسليح والدعم اللوجستي، والمرجعيات الاجتماعية والقبَلية للعناصر والقيادات.

ب- اختراق التنظيمات وحصارها:

تأتي هذه الخطوة عقب جمع المعلومات؛ إذ يمكن الاستفادةُ من الخريطة المعقَّدة للتنظيمات في دول الغرب الإفريقي، ومن أبرز مظاهرها تلك المعاركُ التي تنشَبُ الآن بين تنظيم داعش بقيادة أبي الوليد الصحراوي وجماعة القاعدة بقيادة إياد أغ غالي، وتوظيف العناصر المنشقَّة واستخدامها لعمليات الاختراق، ولا سيَّما الذين يهربون الآن من سوريا وليبيا إلى مَلاذات قبَلية في هذه المنطقة للانضمام للشبكات الداخلية.

ت- تغيير مسار الإرهاب:

بعد الخطوتين الأولى والثانية، يأتي تغييرُ مسار الإرهاب بتجفيف التمويل الذي ترتبط به القياداتُ والعناصر الأخرى (التهريب، الفِدى، الخطف، الرهائن)، ودعم الانشطار والانشقاق، بتوجيه وتكثيف الدعاية للحديث عن الانشقاقات، وضرب القاعدة القبَلية لكلِّ التنظيمات، وذلك بالفصل بينها وبين القيادات القبَلية، وضرب الجماعات بعضها ببعض، أو تحييد بعضها عن بعض.

في الختام 

لا بدَّ لكي تتحققَ خُطوة مواجهة التنظيمات الإرهابية في دول غرب إفريقيا، أن تُتجاوزَ المشكلات التي ذكرناها آنفًا، ومنها: مواجهةُ الجريمة المنظَّمة، وحلُّ الاضطرابات القبَلية، ومعالجةُ هشاشة الدول، ومكافحةُ الفقر. ثم البدء على الفور في تفكيك هذه الجماعات، وَفقَ مجموعة خطوات تتضافر في وقت واحد مع الجهود العسكرية في المواجهة.