​استطاعت حركةُ «جيش الربِّ للمقاومة» الأوغندية طَوالَ ثلاثة عقود أن تحظى باهتمام إقليمي وعالمي؛ لكونها أحدَ أخطر التنظيمات الإرهابية في إفريقيا، بعد تورُّطها في كثير من النشاطات الإرهابية التي خلَّفت آلافَ القتلى والمصابين والمختطَفين. ومع التغيُّرات التي طرأت عليها في العِقد المنصرم التي تجلَّت في تراجُع نشاطها، وانشقاق المزيد من عناصرها، وتحوُّل خططها ووسائلها، برزت الكثيرُ من التكهُّنات عن مستقبل الحركة في خِضَمِّ التطوُّرات الإقليمية والدَّولية بعدما انسحبت القوَّات الإقليمية والأمريكية من مواجهتها؛ مما يثير المخاوفَ من إعادة الحركة نشاطَها مرةً أخرى، وما يترتَّب على ذلك من تهديدٍ للأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة.

النشأة والتطوُّر
ظلَّت حركة «جيش الربِّ للمقاومة» المسيحية سنواتٍ مصدرَ تهديد للدول الإفريقية، إذ أضحت تنظيمًا إرهابيًّا إقليميًّا في منطقة شرق إفريقيا، وامتدَّ تأثيرها إلى منطقة البُحيرات العظمى ووسط إفريقيا، بعد أن كانت حركةَ تمرُّد على الاضطهاد الحكومي في شَمال أوغندا، وأبناء قبيلة الأشولي. ويُعَدُّ «جوزيف كوني» زعيمُ الحركة الحاليُّ أحدَ أشهر أمراء الحرب في قارَّة إفريقيا، فهو زعيمُ جيش الربِّ منذ أكثرَ من ثلاثة عقود.

أما التسلسلُ الزمني لنشأة الحركة وتطوُّرها فكان على أربع مراحلَ متباينة؛ بدأت المرحلة الأولى عندما أنشأت «أليس أوماAlice Auma » الملقَّبة بـ (لاكوينا) «حركةَ روح القدُس The Holy Spirit Movement »المسيحية عام 1986م، وشَرَعت الحركة في مهاجمة القوَّات الحكومية، ووصل عددُ عناصرها إلى 18 ألف فرد. وفي العام اللاحق تلقَّت الحركةُ هزيمةً من القوَّات الحكومية، وبعد هرَب (لاكوينا) إلى كينيا ترأَّسَ والدُها «سيفارينو لوكوياSevarino Lukoya » الحركة، وأطلق عليها اسمَ «جيش الربِّ The   Lord’s Army»، وتورَّطت في أعمال إرهابية استهدفت المدنيين، حتى سقط زعيمُها في يد القوَّات الحكومية، وسُجن عام 1989م. وكان «جوزيف كوني» الزعيم الحاليُّ للحركة قد بدأ في إعادة تكوين الحركة في يونيو 1987م، بضمِّ عناصرَ سابقة من الحركتين، وبعض الجنود الحكوميين، وأطلق عليها اسم «جيش الربِّ للمقاومة». وأعلن أن هدفه الرئيسَ إسقاط نظام الرئيس الأوغندي موسيفيني، وإقامةُ نظام سياسي جديد يقوم على الوصايا العشر في الكتاب المقدَّس.

ثم جاءت المرحلة الثانية في منتصف التسعينيات، عندما انخرطت الحركةُ في حرب بالوكالة على المستوى الإقليمي، في استغلال النظام السوداني السابق لها في محاربة الجيش الشعبي لتحرير السودان، وأراد أن يعاقِبَ النظامَ الأوغندي على دعمه للأخير؛ فقدَّم لها الدعم المادِّي والمـُسانِد (اللوجستي). 

وفي عام 2005م بدأت المرحلة الثالثة التي شهدت تصاعدًا لنشاط جيش الربِّ في أوغندا وبعض دُول الجوار، وعند إخفاق المفاوضات السياسية مع الحركة زادت العملياتُ العسكرية عليها، واشتدَّ التضييق عليها في شَمال أوغندا وجَنوب السودان؛ ما دفع جوزيف كوني ورجالَه إلى الهرَب إلى الكونغو الديمقراطية عام 2008م. 

وتعدُّ المرحلة الرابعة التي بدأت عام 2011م مرحلةَ أفُول نسبي للحركة على الصعيد الإقليمي والدَّولي بعد أن حظيت باهتمام عالمي كبير منذ نشأتها، فقد انخفضَت أعدادُ مقاتليها إلى أقلَّ من مئة مقاتل بحُلول عام 2012م؛ وأضحت البنيةُ التنظيمية للحركة أكثرَ ضعفًا؛ مع تكثيف العمليات العسكرية الإقليمية عليها بمساعدة أمريكية، ما دفعهم إلى الهرب إلى جمهورية إفريقيا الوسطى. وقد أثَّرت عملياتُ الانشقاق والهرب من الحركة في إضعافها جدًّا فلم تقُم بأيِّ عمليات كبرى منذ عام 2010م، ولم تعُد تحت قيادة مركزية قوية بعد اغتيال أبرز قادتها، وتقدُّم جوزيف كوني في العمر، والتوجُّس من تصعيد قيادات جديدة. 

تورَّطت الحركة طَوال أكثرَ من ثلاثين عامًا في شنِّ هجَمات وحشية على السكَّان المحلِّيين، واستهدافهم بالقتل والتعذيب والتشويه والاختطاف؛ ما دفع الكثيرين إلى تشبيه ممارساتها بما يرتكبه تنظيم داعش منذ ظهوره. وقد تسبَّب إرهاب جيش الربِّ في مقتل الآلاف وإصابتهم، ونزوح نحو 2.5 مليون شخص، فضلًا عن أكثرَ من 67 ألف عملية اختطاف بين عامي 1985 و2017م. 

وفي عام 2007م بلغ عددُ أعضاء جيش الربِّ بين 500 و1000 مقاتل وَفقًا للحكومة الأوغندية، ثم في عام 2011م انخفض العددُ إلى 300 أو 400 مقاتل، قبل أن يتضاءل إلى أقلَّ من مئة مقاتل في السنوات القليلة الماضية، ما يُوحي بضَعفه، وأنه لم يعُد تهديدًا لأوغندا ودول المِنطَقة.

الموارد والسُّلوك
امتدَّ نشاط حركة جيش الربِّ إلى ثلاث دُول عَدا أوغندا، هي: جنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية. وتشير التقاريرُ إلى اختباء جوزيف كوني مع جماعة صغيرة من مقاتليه في منطقة كافيا كينجي، وهي مِنطَقة على الحدود في جنوب غرب السودان مع إفريقيا الوسطى، تسيطر عليها السودان، ولم تستطع قواتُ الاتحاد الإفريقي بمساعدة مستشارين أمريكيين الوصولَ إليها.

واعتمدت الحركةُ في تمويلها على الجِباية من السكَّان المحلِّيين في شَمال أوغندا اتِّقاءً لعملياتها الانتقامية، إضافةً إلى الدعم المادِّي واللوجستي في بعض المراحل الزمنية من بعض دول الجِوار، فضلًا عن تورُّطها في عمليَّات الصيد غير المشروع لتهريب العاج من حديقة (غارامبا) الوطنية في الكونغو الديمقراطية، ونهب الثروات المعدِنية من إفريقيا الوسطى، وكان الألماسُ والذهب جزءًا من تجارتها غير المشروعة. وقد ساعد في ذلك سهولةُ تجاوز الحدود بين دُول المنطقة، وضعفُ الأجهزة الأمنية عن تتبُّع الحركة في السنوات الماضية.

وبرزت المساعي الإقليميةُ لإنهاء حالة التمرُّد في البلاد بعَقد مفاوضات سياسية بين الحركة والحكومة الأوغندية برعاية الاتحاد الإفريقي، استضافتها السودان (جوبا) عام 2008م، إلا أنها أخفقت بسبب تراجُع جوزيف كوني عن توقيع الاتفاق، وأطلق الاتحاد الإفريقي بعد ذلك مُهمَّة إستراتيجية لمواجهة التنظيم بتعيين مبعوث خاصٍّ لمواجهته، وإنشاء خُطَّة للتنسيق المشترك برئاسة مفوَّض الأمن والسِّلم في الاتحاد، وإنشاء قوة إقليمية عسكرية من أوغندا، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، وإفريقيا الوسطى. وقد أجرت حكومةُ إفريقيا الوسطى عام 2013م مفاوضات مع جوزيف كوني بشأن استسلامه؛ إلا أنها أخفقت أيضًا.

أدرجَت الولايات المتحدة الأمريكية حركة «جيش الربِّ للمقاومة» على قائمة التنظيمات الإرهابية عام 2001م، وأنفقت أكثر من 800 مليون دولار لتعقُّب كوني، وأصدرت المحكمة الجنائية الدَّولية قرارًا بحقِّه عام 2005م بسبب تورُّطه في 12 تهمة تُصنَّف جرائمَ إنسانية، و21 تهمة تصنَّف جرائمَ حرب. وأرسلت واشنطن عام 2011م نحو مئة جندي للبحث عنه في أوغندا ودول الجوار. وفي عام 2013م عرضت واشنطن مكافأةً قدرها خمسة ملايين دولار للقبض عليه وعلى قادة تنظيمه.

وفي 2017م انسحبت واشنطن من القوة العسكرية الإقليمية التي أُنشئت عام 2014م لمطاردة عناصر جيش الربِّ في المنطقة، مدَّعيةً أن القوة أضعفت الحركة كثيرًا، عَددًا ونشاطًا، إذ تقلَّص عددُها من ألفين إلى أقلَّ من مئة مقاتل، وقُبض على أربعة من قادتها الخمسة الرئيسين؛ ما سبَّب انحسارًا في عملياتها، لتبدأ مرحلةُ الأفول، على الرغم من أن الحركة لا تزال قائمة، ولديها القدرةُ على إعادة إحياء نفسها إذا ما توافرت البيئة والمـُناخ الملائم والدوافع. 

التحوُّلات الراهنة
مع أنه لم يتمكَّن أيُّ طرف من القضاء على الحركة منذ نشأتها، أو القبضِ على زعيمها جوزيف كوني بعدما رسم طريقًا من العنف والفوضى في المِنطَقة لأكثر من ثلاثة عقود؛ تراجعت الحركةُ كثيرًا في العِقد الأخير، ولم تعُد تملك البنيةَ التحتية التي كانت تملكها، وهو ما تجلَّى في بعض التغيُّرات التي طرأت عليها؛ إلا أنه يُحسَب لها قدرتها على البقاء في ظروف صعبة مرَّت بها، فقد وقفَ الدعمُ الإقليمي الذي كان يقدِّمه لها نظامُ عمر البشير، وتضاءلت الروحُ المعنوية للمقاتلين، ولا سيَّما مع تراجع أعدادهم كثيرًا، وذلك بفضل الإستراتيجية التي انطلقت من عام 2010م إلى 2016م لتشجيع المئات من المقاتلين والأطفال المجنَّدين على الانشقاق والهرَب، وحقَّقت نتائجَ جيدة في الحدِّ من قوة التنظيم، وإنهاء العنف الذي امتدَّ سنواتٍ قبل أن تتوقفَ بسبب نقص التمويل عام 2017م، فضلًا عن تخلِّي كوني عن المحافظة على رجاله، وفِقدانه السيطرةَ على الكثير منهم. 

ومن هنا اتخذت الإستراتيجيةُ الجديدة لجيش الربِّ أولويةً ترتكز بالأساس على فكرة البقاء؛ إذ يصف بعضُهم سلوكَ الحركة الراهن بأنه البقاء على قيد الحياة، فقد صارت أقلَّ اهتمامًا بالإرهاب والعنف، وأكثرَ ميلًا نحو البقاء، وإن كان تاريخ الحركة المعقَّد يُظهر أن ذلك هو نمطها التنظيميُّ والسلوكي القائم على قدرة مستمرَّة على التكيُّف مع التحوُّلات في بيئتها السياسية والعسكرية بإستراتيجياتها التنظيمية وطرائقها المختلفة في اكتساب الموارد. 

وتغيَّرت وسائلُ جيش الربِّ من كونها عسكرية تستهدف المدنيين والقواتِ العسكريةَ والأمنية إلى إستراتيجية تعتمد على السرقة والنهب لممتلكات السكَّان المحلِّيين، وسرقة مخازن الأسلحة التابعة لقوَّات الأمم المتحدة العاملة في الكونغو الديمقراطية، والانخراط في زراعة الكفاف (الاكتفاء الذاتي)، وبيع العسل في الأسواق المحلِّية من أجل البقاء. ووصل الأمر إلى اعتراف جوزيف كوني بأن «جيش الربِّ» لم يعُد حركةً تقاتل للإطاحة بالحكومة الأوغندية؛ بل فرقة من اللاجئين الذين يقاتلون من أجل بقائها، وهو ما ظهر في التغيُّر المركزي في طبيعة عُنف الحركة في العامين الماضيين، إذ تُظهر البيانات تورُّطها في قتل 17 مدنيًّا في عامي 2018 و2019م، بانخفاض بلغت نسبتُه %99 مقارنة بعامي 2008 و2009م. وفي المرحلة الممتدَّة من سبتمبر 2019م إلى مارس 2020م لم يكن هناك سوى هجوم واحد لجيش الربِّ في جمهورية إفريقيا الوسطى. 

مستقبل الحركة 
مع كلِّ ما تقدَّم هناك بعضُ المحاولات من جوزيف كوني لإثبات قُدرته على الصمود، والحفاظ على حركة «جيش الربِّ»، وزيادة عدد مقاتليها، ففي عام 2018م أصدر أوامرَه لمقاتليه باختطاف الأطفال حتى يتسنَّى إدماجهم في الحركة، إذ شهد عام 2019م موجةً من عمليات الاختطاف شَمِلَت 222 شخصًا، ومن ذلك عشراتُ الأطفال، ليُجبَروا على نقل البضائع المنهوبة إلى المعسكرات في الأدغال.

بلا شكٍّ تراجع نفوذُ حركة جيش الربِّ في شرق إفريقيا والبحيرات العظمى كثيرًا في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك لا يعني نهايةَ الحركة تمامًا؛ إذ إن استمرار عناصرها في اختطاف الأطفال يكشفُ عن حضورها، وأنها لا تزال تهديدًا خطِرًا واضحًا للمدنيِّين في المنطقة. ومن هنا فمن الممكن استعادةُ جيش الرب قوَّتَه واستئناف نشاطه الإجرامي على القوات الحكومية والسكَّان المحلِّيين في المِنطَقة، ويُسوِّغُ ذلك الفراغُ الأمني الذي خلَّفه انسحابُ القوات العسكرية الأوغندية والأمريكية بحُجة ضعف الحركة وتراجعها، وانحسار عمليَّاتها وأنشطتها.

وفي الوقت الذي تنشغل فيه بعضُ دول المِنطَقة بأزَمات داخلية وقضايا إقليمية أخرى، تشهد دولٌ أخرى موجاتٍ من الاضطرابات السياسية والأمنية، ونشاطَ عدد من التنظيمات الإرهابية، ما أسهم في ضعف البُنية الأمنية لتلك الدول، مثل الكونغو الديمقراطية. وإن إستراتيجية «رسائل الانشقاق» التي أسهمت في إضعاف جيش الربِّ، وتحرير المختطَفين قد توقفت بعدما تراجعت الجهاتُ الدَّولية عن تمويلها، إضافة إلى حِرص جوزيف كوني في المرحلة الأخيرة على عمليات اختطاف الأطفال؛ لإعادة إحياء قوَّته التنظيمية مرَّة أخرى، فضلًا عن عدم استسلامه، وعدم النجاح في القبض عليه في السنوات الماضية؛ مما يتطلَّب إنشاء قوة عسكرية إقليمية صغيرة تحت قيادة الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي، تستطيع ملاحقةَ عناصر جيش الربِّ في مناطقهم، والضغط عليهم، ومنع أي محاولة لتنظيم صفوفهم، وتحقيق الاستقرار والأمن في شرق إفريقيا والبحيرات العظمى.