إذا تأمَّلنا في واقع المجتمعات، ودرسنا الوضعَ العام دون الحالات الفردية، نجد أن العنف السياسي من أهم المشكلات التي لم تعالج معالجةً جادَّة، وهو أيضًا ظاهرة تستحوذُ على اهتمام فئات المجتمع المختلفة. إن مصطلح العنف السياسي تعبيرٌ عمَّا تنطوي عليه الحياةُ السياسية من الصراعات المتعلِّقة بالسُّلطة، فإذا لم تُدَر هذه الصراعاتُ إدارةً سليمة، فإنها ستؤدِّي إلى إرساخ العنف الذي سيتحوَّل إلى إرهاب.

ولا بدَّ من النظر الشامل للواقع؛ لتكوين تصوُّر صحيح غير منقوص عن الأسباب الحقيقية، والجهات المؤثِّرة، دون تحميل أطراف المسؤوليةَ وإعفاء آخرين منها، ثم العمل على حلِّ مشكلة العنف السياسي بمنهج الحوار بين أطياف المجتمع كلِّها.

الصراع والسلام
مع انتشار ظاهرة البلقنة (مصطلح يُراد به سقوطُ دولة ما في حرب أهلية بين الاثنيَّات المختلفة فيها، وتعرُّض بعض مكوِّناتها للتطهير العِرقي، على نحو ما حدث في منطقة البلقان)، وما تُنذر به من اضطراب مستقبلي تكثُر فيه النزاعات والصِّراعات، ينبغي توفيرُ ضروريات الحياة للناس، وتجاوز التحدِّيات والعقبات التي تعترض المجتمعات، وتؤثِّر في بقائها أو استمرار نموِّها، ويصبح السلام الخِيارَ الوحيد لهذه الدول، كي يتسنَّى لها تحقيقُ أهداف التنمية، حيث إن شعوب تلك المناطق أكثرُ حاجةً من قادتها إلى حلول دائمة للنزاعات.

وأفضل طريقة لمعالجة هذا الواقع المضطرب اعتمادُ برامجَ مشتركة برقابة مزدوجة، وتمكينُ المجتمعات، وتأسيسُ بنية تحتيَّة للخِدْمات الأساسية بجهود محلِّية في المجالات المختلفة، مثل: المياه والبيئة، ونظُم الرعاية الصحية، والتعليم وغير ذلك. فضلًا عن تدريب القوَّات الأمنية والعسكرية على مهارات التفاوض والتحاور تدريبًا عمليًّا.

وبتحليل واقع الأرجنتين في موضوع العنف السياسي يتضح استخدامُ الدولة الوطنية منهجَين مختلفين في التعامل مع قضيَّة واحدة، ونستعرض نزاعَ شعب مابوشي في إقليم باتاغونيا جنوبي الأرجنتين نموذجًا.

مراحل النزاع
لدى الأرجنتين تاريخيًّا تجارِبُ شتَّى مع العنف السياسي في مراحلَ مختلفة مثل: حرب الاستقلال، وتوحيد الدولة الوطنية، والديكتاتورية العسكرية، والإرهاب اليساري، والإرهاب الخارجي. وقد انتهت الحكومةُ العسكرية الأخيرة 1967 إلى 1982م بحرب مالفيناس، ثم بدأت مرحلة ديمقراطية جديدة عام 1982م. وأسهم التغييرُ بالانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي في تحقيق السلام، وأُقيمَت الدَّعاوى القضائية المدَنية لإدانة العسكر في جرائم حقوق الإنسان، واستمرَّ ذلك بضعَ سنوات حتى انطلقت حركات تمرُّد عسكري جديدة عُرفت باسم الحرب القذرة، تهدِفُ إلى وقف الدَّعاوى القضائية المدنية التي تَدينُ أعمالَ العسكريين وجرائمهم، ونجح المتمرِّدون، وحقَّقت الحكومةُ سلامًا أكثر استدامة، ولكنَّ ذلك أرضى المتمرِّدين فقط، وأسخط المواطنين بسبب اختلال العملية الديمقراطية.

وفي حِقبة التسعينيات قامت الحكومةُ الجديدة التي أعقبت حكمَ الرئيس «كارلوس منعِم» بجعل الاقتصاد قضيةً أساسية، وانطلق تحوُّل كبير وَفقَ سياسات محدَّدة. وبذلك تراجع العنفُ الداخلي القائم على الخلافات السياسية بسرعة واطِّراد يتناسبان مع العفو الممنوح لقادة التمرُّد السابقين والعسكريين المـُدانين. ثم برز عنفٌ اجتماعي جديد مرتبط بتجارة المخدِّرات والسرقات وعمليات الاختطاف، من أهمِّ أسبابه عدمُ المساواة الاجتماعية، وارتفاعُ معدَّلات الفقر. 

وشهدت تلك المرحلةُ عمليتي عنف مأساويتين؛ ففي عام 1993م انفجرت قنبلةٌ في السِّفارة الإسرائيلية في العاصمة بوينس آيرس، ثم انفجرت قنبلةٌ أخرى في العام التالي 1994م في المنظمة الإسرائيلية الأرجنتينية المشتركة. ولم تُغلَق ملفَّات الحادثتين، واستمرَّ النظرُ فيهما لدى القضاء دون فصل أو حكم، ويغلب على الظنِّ أن الدعوتين القضائيتين عمليةٌ انتقامية بسبب تحالف كارلوس منعِم مع الولايات المتحدة، وصدًى لتدويل نزاع الشرق الأوسط. ثم في عام 1994م أُصلِح الدستور وأُجريت تغييراتٌ مختلفة، مثل: الاعتراف بالشعوب الأصلية في الدولة الوطنية، ومواءمة الدستور مع مجموعة معاهدات حقوق الإنسان. واستمرَّ السلام حتى عام 2000- 2001م، ثم برز صِدامٌ اجتماعي بسبب الأزمة الاقتصادية، وتدهور القيادة السياسية وفِقدانها مكانتها عند المواطنين. 

ثم في عام 2003م بدأ استردادُ الصحة والتعافي بإدارة الرئيس «فيرنانديز» ورئيس الحكومة الجديدة «كرشنر»، وذلك ببناء اقتصاد مُنتِج لا يقوم على المضاربة، وإرساخ سياسة تراعي حقوقَ الإنسان، بدأت معها محاكمةُ الوزارات بفضل إصلاحات عام 1994م، ومعاهدات حقوق الإنسان التي شَمِلَت التسلسلَ الهرمي الدستوري كلَّه. لقد فرض التوجُّه الجديد منهجًا متدرِّجًا، يرتبط بحقوق الأفراد والمجتمع، أتاح للسكَّان الأصليين الاعترافَ بهم، وإعادة توطينهم، واستعادة أراضي أسلافهم بعد معاناتهم عدمَ المساواة على مدار أجيال. وقد عزَّزت الأجيالُ الجديدة التي استعادت هُويَّتها الاثنية إعادةَ التوطين، وساعد ذلك في توسُّع المجتمعات، وامتداد نطاق الأنشطة لتأمين المناطق الخاصَّة بهم وما حولها؛ بمواجهة مشروعات القطاع الخاص العقارية، وعمليات التعدين، وزراعة فول الصُّويا الكثيفة.

ثم شهد عام 2015م تغيُّرًا في الاضطراب السياسي في إبَّان عهد الرئيس «ماوريسيو ماكري» الذي عزم على معالجة النزاعات الاجتماعية بمنهج اليد الحازمة، فأوهنَ الثقة بالقوَّات الأمنية، وأسهم في تفاقُم النزاعات.

شعب مابوشي
استقرَّ شعب مابوشي في منطقة باتاغونيا جنوبي الأرجنتين، وهي تُعَدُّ من المناطق الساخنة التي شهد فيها هذا الشعبُ إبادةً عِرقية فيما يسمَّى غزوَ الصحراء، ما بين عامي 1878 و1885م، وكان الغزو جزءًا من خُطة التوسُّع الجغرافي، وتوحيد الحدود للدولة الوطنية الأرجنتينية.

ينحدر شعبُ مابوشي من فرعي مجموعة باتاغونيا التشيلي والأرجنتيني، ويتمتَّع بروح المحاربين، وشمائل الفخر والاعتزاز، ما يجعلهم أكثرَ نشاطًا وأشدَّ ائتلافًا. لذلك عند حدوث أعمال عنف فإن الاتهام يوجَّه إليهم مباشرة دون فحص الأدلَّة أو البحث عنها، ولا سيما إذا تعلَّق الأمر بفئة الشباب التي تشارك في استعادة هُويَّة الأسلاف؛ من نظُم المعرفة والمعتقدات فضلًا عن التمسُّك بالمطالبة بالأراضي. وغالبًا ما يلجأ الشبابُ إلى طرق فيها سُخريَّة من السياسات أو اتحادات الأحزاب التقليدية، إضافة إلى  قيامهم باحتلال الأراضي بطريقة غير شرعية، وتدمير الممتلكات الخاصَّة، أو مرافق شركات الدولة والخِدْمات العامَّة.

في عهد الرئيس ماوريسيو ماكري تفاقمت هذه الأزمةُ بشدَّة وعنف، فتدخلت القوَّاتُ الفيدرالية لمساندة السُّلطات المحلِّية؛ لقمع عمليات سدِّ الطرق واحتلال الأراضي بقيادة منظمة مقاومة أسلاف مابوشي. وقد واجهت هذه المنظمةُ رفضًا من قِبَل جزءٍ كبير من شعب مابوشي، ويغلب على الظن أن ظهور هذه المنظمة مرتبطٌ بفئة من الشباب يعانون عدمَ المساواة الاجتماعية، ويسعَون لاستعادة هُويَّة أسلافهم. وأدَّى غيابُ الحوار وانعدام قنوات التواصل الجادَّة في معالجة مطالب السكَّان إلى حالة من الاضطراب المزمن في تلك المنطقة. وأسفر تدخلُ القوات الفيدرالية عن وفاة شخصين؛ الأول من الداعمين للسكَّان الأصليين، والثاني شابٌّ ناشط في المجتمع. وبسبب عدم معالجة ملفِّ الوَفَيات معالجةً سليمة حاسمة لآثاره السياسية لم يُنتخَب الرئيس ماكري مرَّة أُخرى. 

عهد جديد
في عام 2019م بدأت حكومةٌ ائتلافية جديدة مهامَّها بقيادة الرئيس فيرنانديز الذي كان أطلقَ وعدًا انتخابيًّا لتحقيق اقتصاد منتِج، وتطبيق سياسات تراعي حقوقَ الإنسان. لكنَّ الوضع الاجتماعي بعد مُضيِّ ستة أشهر أصبح محفوفًا بالصعوبات؛ بسبب الحَجْر الصحِّي من جرَّاء وباء كورونا (كوفيد- 19)، وعِبْء الدَّين الاقتصادي الموروث من إدارة الرئيس ماكري. ثم برزت في الشهر الثامن عام 2020م أزمةٌ أخرى في باتاغونيا تجلَّت باحتلال الأراضي، وتدمير الممتلكات العامَّة والخاصَّة من قِبَل منظمة مقاومة أسلاف مابوشي.

وشارك الكثيرُ من الجماعات والفصائل ذات المصالح في هذه النزاعات؛ مثل: مجموعات جديدة من مابوشي، وقادة من فئة الشباب كقائدة النساء الروحية «مشايز»، وأصحاب مشروعات عقارية خاصَّة، وعمليات تعدين في الولايات الإقليمية والوطنية.

وكان انتهى عهدُ الرئيس ماكري في ظلِّ نزاعات لم تُعالَج معالجةً حاسمة، مما سمح بتجدُّد حدوثها في عهد الرئيس فيرنانديز، وأسوأ ما أسفرت عنه تلك النزاعاتُ موتُ شخصين بريئين، وتدهورُ مكانة قوَّات الأمن لدى المجتمع المدني. ومن المحتمل أن تكون هذه النتيجةُ للأسباب الآتية:

1.    غياب منهج شامل في تعامل السُّلطات ووكلائها مع النزاعات، وعدمُ دراسة المؤثِّرات الحقيقية المتشابهة للمتغيِّرات المختلفة، كاحتلال الأراضي، وإعادة التوطين.
2.    غياب الوضوح والشفافية بين السُّلطات المحلِّية والفيدرالية.
3.    غياب سياسة منهجية حاسمة لمعالجة النزاعات.
4.    غياب عناصرَ تكميلية لتمكين المجتمع. 
5.    عدم الالتزام بالمعاهدات الدَّولية والتسويات، كمعاهدة منظمة العمل الدَّولية.  

خُطَّة مُحدَثة
قامت حكومة فيرنانديز بتطبيق خُطة مختلفة تُسهم في صياغة منهج جديد في معالجة النزاعات المرتبطة بمطالبات السكَّان الأصليين. وجرى تنفيذ الخطةُ الجديدة بقيادة وِزارة الأمن الوطني، في ظلِّ اتفاقيةٍ بين وِزارتي الأمن والبيئة على المستويين المحلِّي والوطني، عبر تحديد قاعدةً أساسية لأساليبَ بديلة في معالجة النزاعات المتعلِّقة بمطالبات السكَّان الأصليين. وأهمُّ الخصائص المنهجية للخطة المـُحدَثة: 
أ- إعادة تنظيم حماية البيئة، وتكوينُ رؤية شاملة تستند إلى رؤية السكَّان الأصليين، فهم من يقومون بهذا العمل، ومن حقِّهم المشاركةُ في صياغة الرؤية ومعرفة قناعاتهم ورغَباتهم المتعلِّقة بالموارد الطبيعية المحلِّية، وحماية مليكة الأراضي على المستوى الفردي والجماعي.
ب- توضيح المسؤوليات الوطنية لوِزارات الأمن والعدل والبيئة، ولقادة المجتمعات المحلِّية، والمعهد الوطني الداخلي، وتحقيقُ التعاون بتنسيق جهود الأطراف المؤثِّرة كلها.
جـ- إعداد منهج للحوار بين جميع الأطراف، يعالج تدخُّلَ الدولة الوطنية في الشؤون المحلِّية للمناطق، بالاعتماد على فريق يمثِّل جميعَ المناطق.
د- وضع وثيقة لقوَّات الأمن وَفق معاهدة منظمة العمل الدَّولية رَقْم 169. 
هـ- تحقيق الفيدرالية ودعوة جميع المناطق للاشتراك في هذه الخطة الجديدة، إضافةً إلى منطقتي شوبوت وريو دي جانيرو؛ لمعالجة النزاعات الحالية.

ومنذ بَدء تنفيذ الخطة الجديدة بتعاون الأطراف المؤثِّرة المختلفة، والاعتماد على الكفاءات، والأخذ بالرؤى المتنوِّعة، تلاشت مظاهرُ العنف، وتراجع احتلالُ الأراضي تدريجيًّا، مع احترام الممتلكات الخاصَّة، وبقاء اهتمام السكَّان الأصليين بالمطالبات. 

ويعدُّ ذلك نقطةَ البداية فقط وليس الحلَّ الأمثل؛ فلا يزال المشروعُ يفتقر إلى أمرين مهمَّين: أنظمة تضبط عملَ وكلاء القوَّات الأمنية، وسياسات توجِّه إلى تمكين المجتمعات عمومًا، والشباب خصوصًا، على نحو يتيح إعادةَ ربط المجتمع المحلِّي والوطني بالسكَّان الأصليين الأرجنتينيين، إضافةً إلى تشجيع تنمية طبيعية بإحياء التبادل الثقافي بين السكَّان الأصليين وبقية أفراد المجتمع. 

ختام القول 
إن هذا النزاعَ المستمرَّ يُعزى إلى أسباب عديدة متداخلة، والحكومةُ الوطنية قادرة على تغيير واقع الصراع، وتجنُّب العنف بسرعة دون إبطاء، إذا توافرت لديها الإرادةُ الجادَّة، وهيَّأت الظروفَ المواتية للتغيير. وذلك سيؤدِّي بلا ريب إلى خفض حدَّة النزاعات حتى تتلاشى نهائيًّا، وتحقيق السلام لجميع الأفراد، وتهيئة البيئات المحلِّية والوطنية لتنمية حقيقية مُستدامة، في ظروف خالية من العنف والإرهاب. وسيكون ذلك مثالًا رائعًا، ونموذجًا يُحتذى لمعالجة النزاعات على نحو دائم مستقبلًا.​