تسجيل الدخول
24/04/2022

​​​​​لا ينشأ الإرهابُ حتمًا من المعتقَدات الدينية، لكنَّ الواقع في عالمنا يشي بعَلاقة بين الإرهاب والدِّين جعلت منه إرهابًا عابرًا للحدود. وقد كان الإرهابُ الحديث في القرن التاسعَ عشرَ عَلمانيًّا في معظم تاريخه، وجرت الحمَلات الإرهابية في القرن العشرين تحت لواء عقائدَ قومية ويسارية ماركسية. لكنَّ العنف السياسي القديم فيما قبل الحداثة لم يخلُ من الجماعات الدينية التي عدَّها بعضُ الباحثين إرهابًا، مثل: السيكارية اليهودية في فلسطين في إبَّان الحكم الروماني، والحشَّاشين في الشرق الأوسط في العصور الوسطى. وفي العقود الأخيرة ظهرت تنظيماتٌ إرهابية ترفع لواء الدِّين؛ كالقاعدة، وداعش، وبوكو حرام، وتنظيمات اليمين الديني في المسيحية الإنجيلية الأمريكية، وحركة هندوتفا القومية الهندوسية في الهند، والحركات الدينية المتطرفة في إسرائيل التي شنَّت هجَمات إرهابية يهودية يمينية متطرفة، منها هجومُ عام 1994م على المصلِّين المسلمين في مسجد الخليل. أما طائفةُ أوم شينريكيو اليابانية التي شنَّت هجومًا بغاز السارين على قطار (مترو) أنفاق طوكيو، فقد كانت أحدَ فروع البوذية المروِّعة. كما يندفع التطرف اليميني في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مدعومًا بحوافزَ دينية.


قدَّم كتاب «سلاح السلام: كيف تقاوم الحرِّيةُ الدينيَّة الإرهابWeapon of Peace: How Religious Liberty Combats Terrorism» بحوثًا عالجت هذه القضية، وذهبت إلى تبرئة الأديان من المسؤولية عمَّا يسمِّيه الباحثون «الإرهاب الدِّيني»، ويستخدم المؤلِّفُ نيلاي سايا، وهو أستاذٌ مساعد في العلوم السياسية بجامعة ناننج التِّقنية في سنغافورة، الاصطلاحَ نفسه إلا أنه يوظِّفه في أغراض منهجية، ويقصد به الإرهابَ الذي تمارسه تنظيماتٌ ترفع لواء الدِّين، دون التفاتٍ إلى حُجِّية ما ترفعه من شعارات، وهو يرى أنَّ إرهاب هذه الجماعات «الإرهاب الدِّيني» لا يقع بسبب الدِّين نفسه، ولكن بسبب سلوك الفاعلين، أي الجماعات الدينية أو الدولة في تصدِّيها. وقد صدر هذا الكتاب عن جامعة كمبريدج العريقة.

هذا الكتاب
يقع الكتابُ في خمسة فصول رئيسة، فضلًا عن الفصل التمهيدي والملاحق. يقدِّم الفصلُ التمهيدي الفكرةَ الرئيسة للكتاب مدعومةً بحُججها، وذلك بشرح العَلاقة بين الإرهاب الديني والحرية الدينية، ويرصد الفصلُ الأول الإرهاب الديني وأسبابه، مؤكِّدًا أنَّ الدِّين في أصله لا يحرض على العنف، ولكنَّه عنصرٌ كامن يمكن أن يُستغل عند تفاعله مع بيئته السياسية.

وفي الفصول الثلاثة التالية يقدِّم المؤلِّف سايا، تحليلًا إحصائيًّا للعَلاقة بين القمع الديني والإرهاب الدِّيني، ويتضمَّن كلٌّ منها دراساتِ حالة توضح العَلاقة بين الحرية الدينية والإرهاب الديني. وهذه الدراساتُ للحالة مقنعة، شَمِلَت مجموعةً شتَّى من البلدان التي من شأنها دفعُ المخاوف من أن يعتمد المؤلِّفُ في كتابه على دراسة مِنطَقة محدَّدة من العالم لدعم حُجَّته. 

وتضمَّنت تلك الفصولُ تحليلاتٍ تعرض التفسيرات البديلة لمستوى الإرهاب الديني، واختُتم الكتابُ بفصل يؤكِّد أهميةَ الحرية الدينية، وضرورةَ الاهتمام بها في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ويحلِّل المؤلِّف العَلاقة بين الإرهاب والقمع الديني، سواءٌ في ظلِّ رؤية تاريخية أو في ظلِّ التطوُّرات المعاصرة، بالاعتماد على مجموعة من دراسات الحالة والبيانات الكمِّية المختلفة، وخَلَص إلى أنَّ قمع الدِّين يؤدِّي إلى التطرف والعنف، وأنَّ حماية الحرية الدينية ضرورةٌ أخلاقية وإستراتيجية على حدٍّ سواء. 

لقد زادت هجَماتُ المقاتلين الذين يرفعون راية الدِّين عاليًا، في العقود الثلاثة الماضية، ويبدو أن أفضلَ سلاح لكبح التطرف الديني العنيف، كما يراه المؤلِّف، هو أن تُتيحَ البلدان والمجتمعات حرية الدِّين، وهي رؤيةٌ استمدَّها من تحقيقه في الصِّلة بين الإرهاب وقمع الدِّين.

الحرية الدينية 
يناقش الكتابُ العَلاقة بين الحرية الدينية والإرهاب القائم على العقيدة في سياق سِجالي، ويجيب عن أسئلة مُلحَّة من مثل: هل تكون محاربةُ الإرهاب أجدى مع تشديد القيود الدينية، أم هي أنجح مع إطلاق الحرية الدينية؟ وهل يساعد احترامُ الحرية الدينية الدولَ على منع الإرهاب القائم على العقيدة، أم يكبِّل يديها في ذلك؟ 

قد يزعم بعضُ الناشطين أنَّ تجنُّب الإرهاب ربما يتطلَّب تقييدَ بعض الحريات؛ مثل الحرية الدينية، باسم الحفاظ على الأمن القومي. فهذه الحرياتُ في رأيهم، تمنع الحكوماتِ من استخدام جميع الأسلحة في ترسانتها؛ لتحسين سياستها في مكافحة الإرهاب، وهي تزيدُ من فرص إنشاء جماعات إرهابية تنفِّذ الهجَمات وتجنِّد الأتباع. ومع تسليمهم بأنَّ تشديد القيود الدينية غيرُ مناسب، يرَون ذلك ضروريًّا في الواقع المعاصر للتطرف الديني العنيف، وهم ينتقدون قيودَ محاربة الإرهاب في الدول الليبرالية (حظر التعذيب، تقييد المراقبة، مراعاة الأصول القانونية، إلخ)، ويرَون أن التخلُّص منها يزيد جَدوى محاربة الإرهاب؛ لأنَّ هذه القيودَ تخفِّض كُلفة الانخراط في النشاط الإرهابي ومخاطره. هم باختصار يرَون أن الدول الأقلَّ عُرضةً للإرهاب هي التي تمتلك قدُرات أكبرَ في مراقبة المجتمع، وفرض مزيدٍ من القيود على الحركة وعلى وسائل الإعلام. 

وفي المقابل يرى آخرون، ومنهم مؤلفُ الكتاب، أنَّ قمعَ الحرية الدينية هو في الواقع عامل مهمٌّ يدفع إلى مزيدٍ من الإرهاب الديني ويحرِّض عليه. فالدِّين جزءٌ جوهري من التجرِبة الإنسانية، وجزءٌ لا يتجزَّأ من هُويَّة الإنسان وكِيانه على مدار تاريخ البشرية، ومن المنطقي أن يكونَ لقمعه عواقبُ مؤسفة وَخيمة، تُفضي إلى مستوياتٍ أعلى من العنف، ممَّا يسمح للإرهابيين الذين يرفعون رايتَه بالتغلُّب على الحواجز التي تعترض النشاطَ الإرهابي السائد في كثير من الدول؛ لأنَّ قمع الحرية الدينية يمنع الناسَ من تحقيق سعيهم الإنساني الجوهري إلى ما يؤمنون بأنه الهدفُ والغاية من الحياة. ومَن يعرقلون سعيَ الإنسان لإشباع روحه؛ بتطبيق تعاليم دينه وعبادة ربِّه، لا يقوِّضون قدرة الشعوب على التصويت، أو إنشاء أحزاب سياسية، أو السعي لتحقيق المساواة الاقتصادية وحسب؛ بل يضعون القيودَ على الحقوق الأكثر أهميةً المتعلِّقة بحرية الناس في الاعتقاد بالغرض من وجودهم، والعيش وَفقًا لفهمهم للحقائق المطلقة.

ويؤكِّد مؤلِّفُ الكتاب أنَّ محاربة الإرهاب بقمعِ الحريات الدينية، والإفراط في استخدام القوة، ومنع المشاركة في صُنع القرار السياسي، ومصادرة حرية التعبير، كلُّ ذلك يُعَدُّ مخاطرةً بفِقدان دعم المعتدلين والناس عامَّة، وهو دعمٌ ضروري للنجاح في هذه الحرب، وهي أيضًا مخاطرة ترفع من احتمالات وقوع الإرهاب، وتعطي الفرصةَ للإرهابيين لتسويق العنف بوصفه الوسيلةَ الوحيدة للتغيير، وكذلك التأثير في المتعاطفين مع الدولة.

تحدٍّ مستمرٌّ 
لا يسعى المؤلِّفُ في كتابه إلى اتهام أيِّ دِين أو تبرئته، ولا يفحص الادِّعاءات الدينية لأيِّ جماعة إرهابية، ولا يربط الأعمال الإرهابية بأيِّ نصوص دينية، فهو ينطلق من الواقع لا من النصِّ، وهو واقعٌ يُظهر أنَّ الإرهاب القائم على مسوِّغات دينية أصبح اليوم حدثًا يكاد يكون يوميًّا في العالم، من تنظيم داعش في سوريا والعراق وبلدان أخرى، إلى جماعات البوذيين في بورما، والهندوس في سيريلانكا وولاية غوجارات الهندية، والمسيحيين في إفريقيا الوسطى، وجيش الربِّ المسيحي في أوغندا، والجماعات اليهودية في إسرائيل. وهكذا يمكن العثورُ على المتطرفين الذين يسوِّغون العنف في كلِّ الأديان، مما ترتَّب عليه ازديادُ الهجَمات التي ارتكبها المتشدِّدون الدينيون كثيرًا في العقود الثلاثة الماضية. 

وقد باتت هذه الأعمالُ الإرهابية التي يدَّعي مرتكبوها الاستنادَ إلى مسوِّغات دينية تحدِّيًا كبيرًا للعالم كلِّه في الآونة الأخيرة. وكشفت إحصاءاتُ قاعدة بيانات الإرهاب العالمي أنه في العام الذي سبق هجَمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، شهد العالم 255 هجمة إرهابية لأسباب دينية، وبحلول عام 2014م ارتفع هذا الرَّقْم عشرة أضعاف تقريبًا إلى 2237 هجمة، وارتفع أيضًا عددُ الجماعات الإرهابية الدينية، ففي عام 2001م صنَّفت وِزارةُ الخارجية الأمريكية سبع جماعات دينية فقط على أنها «تنظيمات إرهابية أجنبية» تهدِّد الأمن القومي للولايات المتحدة، وبحلول عام 2016م وصل العدد إلى 45 تنظيمًا.

أسباب الزيادة
ويحلِّل المؤلِّفُ ثلاثة اتجاهات عالمية تتعلَّق بأسباب ازدياد الإرهاب بدوافع دينية على النحو الآتي: 

الاتجاه الأول هو إحياء الدِّين، أو ما يُسمَّى عودة العالم إلى الدِّين من جديد. فقد أظهرت الدراساتُ الحديثة أنَّ الدِّينَ يكتسب قوةً في جميع أنحاء العالم، وله حضور سياسيٌّ اليوم أكثرَ مما كان عليه في أيِّ وقت مضى، وأنَّ عمليات التحديث والعولمة والتحوُّل الديمقراطي التي تنبَّأت الأطروحاتُ العَلمانية بأنها ستؤدِّي في نهاية المطاف إلى اختفاء الدِّين لم تتحقَّق؛ بل على العكس من ذلك، فقد أدَّت الإخفاقاتُ الواضحة للمشاريع العَلمانية في البلدان النامية إلى اكتساب أديان العالم الرئيسة أهميةً جديدة، وإقبالًا زائدًا في العالم الحديث. إنَّ %85 من سكَّان العالم يؤمنون بدِين من الأديان، أو يعتقدون على نحو ما بأحد المعتقَدات الدينية. وها هو ذا الخبيرُ الاجتماعي البارز بيتر بيرغر، الذي كان يومًا ما مؤيِّدًا قويًّا لأطروحات العَلمانية، يقرُّ بأنَّ العالم أصبح أكثرَ تديُّنًا، وليس أقلَّ تديُّنًا كما كان يتوقَّع! ويؤكِّد أنَّ العالَم «متدينٌ بشدَّة كما كان في وقت مضى، وفي بعض الأماكن أكثرَ من أيِّ وقت مضى». 

والاتجاه الثاني هو القيود على الدِّين، ويتضمَّن محاولات تقييد الممارسة الدينية في مواجهة هذا الانبعاث الديني الجديد. وكشفت تقاريرُ متتاليةٌ أصدرها مركز بيو للأبحاث، أنَّ ما يقرب من ثلث سكان العالم يعيشون في بلدان تتميَّز بقيود دينية «عالية» أو «عالية جدًّا». وأظهرت تلك التقاريرُ أيضًا أنَّ %1 فقط من سكَّان العالم يعيشون في بلدان تزدادُ فيها الحرية الدينية. هذه النتائج أكَّدها أيضًا «مشروع الدِّين والدولة» الذي يشرف عليه أستاذ الدِّين والسياسة «جوناثان فوكس»؛ إذ تُظهر بحوث المشروع أنه من بين ثلاثين نوعًا من القيود الدينية، هناك ثمانية وعشرون نوعًا هي أكثرُ شيوعًا اليوم ممَّا كانت عليه في عام 1990م، ويمكن العثورُ على قيود عالية على المعتقَدات والممارسات الدينية في كلِّ مِنطقة من مناطق العالم، وضمن أتباع كلِّ دِين من الأديان، ويمكن العثورُ على ممارسات القمع الديني في روسيا المسيحية، وبورما ولاوس البوذيتين، والهند ونيبال الهندوسيَّتين، وباكستان المسلمة، وإسرائيل اليهودية.

والاتجاه الثالث هو المقاومة، وهو ناتجٌ عن الاتجاهين الأوَّلَين المتناقضَين (إحياء الدِّين، والقيود المفروضة عليه)، فمن المرجَّح أن يقاومَ المؤمنون المتديِّنون تلك القيودَ، أو يدعموا مَن يفعل ذلك. وتأخذ هذه المقاومة أحيانًا نمط الاحتجاج السِّلمي، وفي أوقات أخرى يمكن أن تتحوَّل إلى عنف يمزِّق الدول ويهدد  استقرار جيرانها.

ويؤكِّد الكتاب أنَّ هذه الاتجاهاتِ الثلاثةَ متشابكة على نحوٍ وثيق لا ينفصِم، والحُجَّة المطروحة هنا يسيرة واضحة، وهي: إن محاولات الدول قمعَ الدِّين تُنتج التعصُّبَ والإرهاب اللذَين تسعى المجتمعات إلى تجنُّبِهما. وليس من قبيل المصادفة أنَّ معظمَ دول العالم التي تصدُر عنها أخطرُ التهديدات للسِّلم والأمن على الصعيدين المحلِّي والدَّولي هي تلك التي تشهد اضطهادًا دينيًّا على نحوٍ ما.

تحليل البيانات 
حلَّل المؤلِّفُ العَلاقة بين النشاطات الإرهابية (متغيِّر تابع) والحريات الدينية (متغيِّر مستقل) بتحليل العمليات الإرهابية في 174 دولة، في المدَّة من عام 1991 إلى عام 2012م، استنادًا إلى قاعدة بيانات الإرهاب العالمي التابعة للاتحاد الوطني الأمريكي لدراسة الإرهاب والردِّ عليه «START»، وربطَها بمستوى الحرية الدينية في تلك البلدان باستخدام مؤشِّر التنظيم الحكومي للدِّين «Government Regulation of Religion Index - GRI» الذي يحاول قياسَ مدى محاولة الحكومات السيطرة على الجماعات الدينية أو الأفراد بواسطة السياسات والتشريعات الرسمية. وشَمِلَ المؤشِّر 196 دولة ومِنطقة جغرافية وإقليمية، وراوحَت درجاته بين صفر و10، وتدلُّ الدرجة 10 على أكثر قيود الحرية الدينية شناعة. وقسَّم المؤلِّفُ هذه الدرجات إلى ثلاث فئات: منخفضة (بين صفر و3.3 درجات)، ومتوسطة (بين 3.3 و6.6 درجات)، وعالية (بين 6.6 و10 درجات). 

وأكَّد المؤلِّف أنَّ تحليل مجموعة البيانات الكاملة يكشف أنَّ «المتغيِّر» الأكثر أهميةً هو التنظيمُ الحكومي للدِّين «GRI»، فتأثيرُه يزيد على ضِعف تأثير «المتغيِّر» التالي في الأهمية. فعندما يجد الأشخاصُ المتدينون أنفسهم مهمَّشين بسبب أيِّ نوع من أنواع التقييد الديني، فمن المرجَّح أن يواصلوا تحقيقَ أهدافهم باللجوء إلى العنف. ولا يحدثُ ذلك آليًّا؛ إذ تُؤثِّر المؤسساتُ السياسية في نزوع الجماعات الدينية والأفراد إلى العنف، فإذا أدَّى التنظيم الحكومي للدِّين إلى نشوء مظالمَ سياسية تمسُّ الجماعات الدينية والأفراد، وإذا كان الاضطهادُ الديني شديدًا، فإنه يمكن أن يعزِّز نوعًا متطرفًا من الأصولية الدينية! فالمتغيِّر الأكثر أهميةً هنا هو تنظيمُ الدولة للدِّين، فهو المفتاحُ لتحديد ما إذا كانت دولةٌ ما تتعرَّض لهجَمات إرهابية بمسوِّغ ديني أم لا. ويزداد أثرُ القمع الديني بوصفه سببًا للإرهاب عندما يقترن بعددٍ كبير من السكَّان، وأنظمة هشَّة، وهيمنة اتجاهات ترى الجماعاتِ الدينيةَ تهديدًا للوضع السياسي للبلد. 

وكشف تحليلُ البيانات أنَّ البلدان التي تفرض قيودًا شديدة على الدِّين غالبًا ما تكون عُرضةً للهجَمات الإرهابية الدينية، وأن فرض قيود صارمة على الدِّين تتفق مع نسبة مئوية أكبر من الهجَمات الإرهابية الدينية، مقارنةً بالدول التي لديها مستوياتٌ معتدلة أو منخفضة من القيود الدينية؛ فقد حدثت الهجَماتُ الدينية في البلدان ذات القيود الدينية «العالية» التي يزيد عددُ سكَّانها على 10 ملايين.

ومع ذلك، هناك بعضُ الاستثناءات لهذه القاعدة: فإذا كان النظام قائمًا لأكثرَ من 47 عامًا، ولم تكن الدولة محتلَّة من قِبَل قوة أجنبية، فقد حدثت الهجَماتُ الدينية بمعدَّل %28.57 فقط (الصين ومصر في سنوات محدَّدة). وتُظهر النتائج طرقًا لا تُعدُّ ولا تُحصى، يمكن بواسطتها دمجُ عواملَ شتَّى مع قيود دينية عالية للتنبُّؤ بهجَمات إرهابية دينية. وتؤكِّد الأدلَّة أنَّ القيود الدينية بمنزلة شرط ضروري في التنبُّؤ بالإرهاب الديني. وهناك حالاتٌ قليلة تمكَّنت فيها أنظمةٌ قمعية قائمة منذ مدَّة طويلة من النجاح في إحباط الهجَمات الإرهابية. 

أما البلدانُ المعتدلة في التسامح الديني، التي لديها عددُ سكَّان منخفضٌ (10 ملايين)، فقد تعرَّضت لهجَمات دينية عندما كان يعيش فيها أكثرُ من أربع أقلِّيات دينية، وكان يحكمُها نظام عمره في السُّلطة أقلُّ من عام. وعندما تجاوز عددُ سكَّان البلدان المعتدلة في التسامح الديني 10 ملايين، حدثت الهجَماتُ فقط في البلدان الأوروبية التي تضمُّ أكثر من ثماني أقلِّيات دينية، وفي آسيا والشرق الأوسط. ويُظهر تحليل البلدان ذات المستويات المعتدلة من التسامح الديني أنَّ نسبة احتمال الهجوم الإرهابي تنخفض بمعدل %90 مقارنةً بالدول ذات المستويات العالية من القيود الدينية.

 ولا تعاني البلدانُ ذات القيود الدينية المعتدلة، وعدد السكَّان القليل، وعدد الأقلِّيات الدينية القليل، هجَماتٍ إرهابيةً دينية. وتنطبق هذه القاعدةُ على عدد من البلدان لسنوات محدَّدة، منها: النمسا، والبحرين، وبلجيكا، وكمبوديا، وجيبوتي، وكازاخستان، وقيرغيزستان، ومقدونيا، ورومانيا، والإمارات العربية المتحدة. هذه البلدانُ ليست من بين أكثر الدول حريةً دينية، إلا أنَّ قلَّة عدد سكَّانها، وتجانسها الديني، لهما أثرٌ في عدم شهودها إرهابًا دينيًّا.

ولم تشهد كثيرٌ من الدول ذات القيود الدينية المنخفضة أيَّ هجَماتٍ إرهابية دينية في المدَّة الزمنية المدروسة، وتشمل هذه البلدان، على سبيل المثال لا الحصر: الأرجنتين، وأستراليا، وبوليفيا، والبرازيل، وكندا، والدنمارك، وإستونيا، وفنلندا، وغيانا، وهندوراس، وإيطاليا، ومدغشقر، وموزمبيق، ونيوزيلندا وبنما، وباراغواي، وبولندا، وجنوب إفريقيا.

ويكشف تحليلُ البيانات أيضًا أنَّ القيود الدينية يمكن أن تصبحَ مشكلةً عندما تقترن بعددٍ كبير من السكَّان وبأنظمةٍ أقل ديمومة. وتنطبق هذه القاعدةُ على بنغلاديش، وبورما، وإندونيسيا، وباكستان، والجزائر، ومِصر، وإيران، ونيجيريا، وروسيا، والسودان، وتركيا، لسنوات محدَّدة. 

ويخلص تحليلُ البيانات إلى أنَّ «المتغيِّر» الأكثر أهمية الذي يتنبَّأ ببدء الإرهاب الديني، هو التنظيمُ الحكومي للدِّين (GRI)، فعندما ينخفض حجمُ هذا المتغيِّر (قيود دينية أقل) لا يكون للمتغيِّراتُ الأخرى أي تأثير في تفسير غياب الإرهاب الديني. ومع استثناءات قليلة يزدادُ الإرهاب الديني جدًّا مع زيادة مستوى القيود الدينية. وكشف التحليل أيضًا أنَّ مستوى ثروة بلدٍ ما لا عَلاقة له بالإرهاب الديني، متحدِّيًا مقولة: إنَّ الإرهاب الديني يتعلَّق بالفقر أكثرَ من أيِّ شيء آخر.

خمسة احترازات
تجنَّب الكتابُ اللغة اليقينية الجازمة في استنتاجاته من تحليل بيانات طبيعة العَلاقة بين الحرية الدينية والإرهاب، فأورد خمسة احترازات أو تنبيهات مهمَّة تتصل بتلك الاستنتاجات، وهي:
  1. لا يشيرُ هذا الكتاب بأيِّ حال من الأحوال، إلى أنَّ البلدان الحرَّة دينيًّا لا تشهد أبدًا إرهابًا دينيًّا، أو أنَّ البلدان ذات المستويات العالية من القيود الدينية تُنتج الإرهاب دومًا. فإن الأمر يعتمد على طبيعة القمع والفُرص السياسية المتاحة. وهنا يمكن تقديمُ حجَّة مُفادها أنَّ الدول الأكثر استبدادًا ووحشية مثل: ألمانيا النازية، أو روسيا الستالينية، أو كوريا الشَّمالية المعاصرة، هي الأفضلُ في قمع الدوافع الإرهابية؛ لأنها تمنع بحزم جميعَ سُبل العمل الجماعي للإرهابيين. في مثل هذه الحالات تكون درجةُ الاضطهاد الديني شديدةً ومنتشرة، إلى درجة تعجِزُ معها الجماعاتُ الدينية عن تنفيذ أيِّ ممارسات لعقيدتها، فضلًا عن الانخراط في العنف. وعلى الرغم من هذا النوع المتطرف النادر جدًّا من القمع، تبقى العَلاقةُ الأساسية بين القمع الديني والإرهاب الديني قائمة؛ لأنَّ معظم الدول ليس لديها القدرةُ أو الرغبة في تنظيم الحياة الدينية على شاكلة النماذج السابق ذكرُها. ويؤدِّي القمع العشوائيُّ الواسع النطاق للدِّين غالبًا، إلى زيادة كُلفة بقاء المواطنين العاديين مسالمين، ويعطي المقاومة المسلَّحة مسوِّغات لإمكانية تغيير الوضع الراهن. وإذا كان الإرهابُ تهديدًا لكلٍّ من المجتمعات الحرة دينيًّا والمقيَّدة دينيًّا، على حدٍّ سواء، فإنه يبدو أكثر احتمالًا في المجتمعات المقيَّدة دينيًّا.
  2. يهتمُّ الكتابُ بأحد مظاهر القمع الديني، وهو الطريقة التي تقيِّد بها الحكوماتُ الدِّين. ومع ذلك هناك طرقٌ أخرى يمكن بها قمع الدِّين أيضًا. وما هو أكثرُ أهمية، إلى جانب القيود الحكومية، القيودُ المفروضة على الدِّين التي تنشأ على المستوى المجتمعي. فغالبًا ما يكون أكثرُ المدافعين صراحةً عن القيود الدينية هم الجماعات الدينية المهيمنة، التي تدعو أتباعَها والقادة السياسيين إلى حِرمان الآخرين من الحريات الدينية، أو إقصاء المنافسين الدينيين. ويسوِّغ المؤلِّف تركَه تناولَ هذه الطرق التي تغذِّي بها القيودُ الدينية الاجتماعية الإرهابَ، بأنه سببٌ منهجي؛ فغالبًا ما يجري تنفيذُ مثل هذه القيود من قِبَل المنظمات المتطرفة (ومنها الجماعاتُ الإرهابية)، ومن ثَمَّ تركها لعمل مستقبلي مستقلٍّ يتناول العَلاقة بين التنظيم الديني الاجتماعي والإرهاب.
  3. لا يستبعد المؤلِّفُ بأيِّ حال من الأحوال، أهميةَ الأفكار في تفسير الإرهاب الديني، فاللاهوت السياسي «أي الفكر الذي تتبنَّاه جماعةٌ دينية بشأن السُّلطة السياسية» له أهميةٌ كبيرة في تفسير الإرهاب الديني. وتبيِّن التفسيراتُ اللاهوتية للإرهاب الديني أنَّ الكيفية التي يفسِّر بها المتشدِّدون الدينيون الادِّعاءاتِ التأسيسيةَ لأديانهم، والنصوصَ المقدَّسة الرئيسة، والعقائدَ التاريخية، والسياقاتِ المعاصرة، يمكن أن تُلهمَهم حملَ السلاح. ويمكن أن توجدَ مثلُ هذه اللاهوتيات أيضًا في أيِّ بلد، وتعملَ في بعض الأحيان مستقلَّة عن مستوى الحرية الدينية في الدولة. ومع ذلك تميلُ هذه المعتقدات عمومًا إلى التطرف والانتشار، في ظلِّ ظروف القمع؛ عندما يُحرَم الناشطون الدينيُّون من الاستقلال والحرية في تنفيذ ممارساتهم القائمة على العقيدة والشريعة، ويشترك هؤلاء في لاهوت سياسي، يرَون معه العنفَ وسيلةً مقبولة لتحقيق غاية، يصبح التحوُّلُ إلى البندقية أكثرَ احتمالًا.
  4. لا يدَّعي المؤلِّف أنَّ قمع الدِّين يفسِّر الإرهاب الديني من جميع جوانبه، فالإرهابُ ظاهرة متعدِّدة الأوجه ومعقَّدة جدًّا، ولا يمكن اختزالها في قضيَّة واحدة، ويمكن لعددٍ من العوامل: كالتفكُّك الاقتصادي، والاحتلال الأجنبي، والشعور بالقهر، وتهديد أساليب الحياة التقليدية؛ أن تؤدِّيَ إلى تفاقم الاضطرابات الدينية، وتكون عواملَ تحفيز لها. وفي أحيانٍ كثيرة تتَّحدُ هذه العواملُ مع إنكار الحرية الدينية لتأجيج المظالم وإدامة الصراع.
  5. يمكن أن تصبحَ الدول أكثر قمعًا؛ ردًّا على الهجَمات الإرهابية، ومن ثَمَّ تشرح جزءًا من العَلاقة بين القيود الدينية والإرهاب. لهذا السبب كان من الممكن فهمُ العَلاقة بين قمع الدِّين والإرهاب على أنها حَلْقة مؤثِّرة وتفاعلية ومستمرَّة، فالدولُ تقمع الدِّين، والجماعات الدينية تقاوم وتضرب، ويشتدُّ قمع هذه الجماعات؛ إذ يُستخدَم الإرهاب ذريعةً لمزيد من قمع الدِّين. وفي حين تنشَط دُوَّامة العنف في البلدان القمعية، نجد أنَّ الفحص الدقيق للسجلِّ التاريخي يُظهر أنَّ الإرهاب المنتشر يتبعُ عادةً السياسات القمعية بدلًا من أن يسبقَها. وقد تستخدم الحكوماتُ بعد ذلك التهديدَ المتصوَّرَ للإرهاب أداةً لتسويغ مزيدٍ من القمع.
عَلاقة مركَّبة 
العَلاقة بين الحرية الدينية والإرهاب قد لا تكون وَفقَ الترتيب الخطِّي المزدوج، الذي يرى أنَّ مزيدًا من الحرية الدينية يعني قليلًا من الإرهاب، وأنَّ مزيدًا من قمع الحريات الدينية يعني مزيدًا من الإرهاب، فهناك مَن يرى أنَّ الحرية الدينية غيرَ المقيَّدة هي فرصةٌ للإرهابيين لجمع الأنصار ونشر الأفكار.

ومن السهل أن تصبحَ بعضُ البلدان أكثر تقييدًا للحريات الدينية ردًّا على إرهاب جماعات دينية، وهذا ما يفسِّر العَلاقة الترابُطية بين قمع الحريات الدينية والإرهاب وَفقَ حركة دائرية تأخذ نمطين؛ النمط الأول: أن تقمعَ حكومةٌ ما الحريات الدينية، فتردَّ الجماعاتُ الدينية عليها بالإرهاب، فتزيد الدولةُ من قمع الحريات الدينية. والنمط الثاني: تقع هجَمات إرهابية من قِبَل جماعات دينية في دولٍ تسمح بالحريات الدينية، فتقوم الدولةُ بتقييد تلك الحريات، فتردُّ الجماعات بمزيد من العمليات الإرهابية، وهكذا يزدادُ تقييد الحريات الدينية، والعمليات الإرهابية في آنٍ واحد. 

ويشير المؤلِّفُ إلى أنَّ كثيرًا من قادة العالم خاضوا مباراةً في حربهم على التطرف والإرهاب، قامت في كثير من الحالات على تقييد الحرية الدينية، وقمعها إلى درجة التضييق على جماعات غير عنيفة، وإجبار الناس على حلق لحاهم، وإبعاد المتدينين عن العمل في مؤسسات الدولة، ومنع المواطنين من ممارسة شعائر دينهم. فضلًا عن ممارسات اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا التي تضيِّق على الأقلِّيات والمهاجرين. 

ويؤكِّد المؤلِّفُ أنَّ تلك الممارساتِ وصفةٌ خاطئة للقضاء على الإرهاب؛ بل هي تُتيح بيئةً خِصبةً لنموِّ التطرف والإرهاب الديني. وإذا كان من نصيحةٍ يُسديها المؤلِّف للقائمين على هذا الشأن فهي: تأكيدُ أن التسامح مع المعتقَدات هو أمضى سلاح في وجه العنف والتطرف الديني، فقمعُ الحريات الدينية يحرم المجتمع الإسهامَ الإيجابي للدِّين فيه، ويُضفي على خطابات المتطرفين الصدق في ادِّعائها أن الدولةَ لا تعامل المتدينين بعدالة. وغالبًا ما يحدُث العنف الديني عندما يوجِدُ القمع الديني مظالمَ عند الجماعات الدينية التي تعرَّضت له، وعندما تستهدف جماعاتٌ دينية تنتمي إلى الأغلبية الدينية في المجتمع، أولئك المنتمين إلى الأقلِّيات الدينية فيه بالعنف، وبهذا يستدعي النظامُ الذي يقمع الدِّين العَداءَ الذي يسعى إلى محاربته بواسطة هذا القمع.

ولا شك أنَّ الجماعاتِ الإرهابيةَ التي ترفع راياتٍ دينيةً ترتكب جرائمَ مَهُولة تدفع الدولَ إلى استخدام القوة في القضاء على هذا النمط الخبيث من الإرهاب، في الداخل والخارج، وقد يرافق ذلك تقييدٌ للحريات الدينية. وحلَّل المؤلِّفُ هذا النهج باستخدام دراسة حالة مقارنة بين فرنسا واليابان، فأكَّد أنَّ سياساتِ فرنسا القمعيةَ للإسلام في الداخل، والنزعةَ العسكرية في الخارج، قد أفرزت نتائجَ غير مقصودة هي هجَماتُ الجماعات الإرهابية. وعلى الضدِّ تُظهر حالة اليابان أنَّ محاربة الإرهاب بنجاح تتطلَّب اتخاذَ تدابيرَ أقلَّ بكثير، ومن ذلك احترامُ الحقوق الدينية في الداخل، والحذَر عند استخدام القوة في الخارج.

أبواب التطرف
لم يُغفل المؤلِّف وجهةَ النظر الأخرى وحُجَجَها التي تقول: إنَّ الحرية الدينية غيرَ المقيَّدة تفتح أبوابًا للتطرف الديني، ولا سيَّما في عالمٍ مترابط، حيث يمكنُ للأفكار المتطرفة أن تنتشرَ انتشارًا كبيرًا وسريعًا. ووَفقًا لهذا المنطق، يستفيد المتطرفون الدينيون من بيئات الحرية الدينية؛ لإيجاد عالم يمكنهم فيه فرضُ نظرتهم للدِّين على أيِّ شخص آخر، ويمكن أن يؤدِّيَ قمعُ الجماعات الدينية إلى زيادة كُلفة التمرُّد وردع الإرهابيين المحتمَلين.

ويستند هذا المنطقُ إلى افتراض أنَّ الليبرالية تقيِّد الحكومات، وتَحولُ دون استخدام جميع الأسلحة المتوافرة لديها؛ لتحسين سياسات مكافحة الإرهاب وخُططها. وقد وافقَ كثيرٌ من قادة الدول في جميع أنحاء العالم على هذا المنطق الذي يرى أن ردعَ الإرهاب بحزم قد يتطلَّب تقييدَ بعض الحريات؛ مثل الحرية الدينية باسم الأمن القومي، كما هو الحالُ في مناطقَ شتَّى من العالم؛ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي آسيا الوسطى، وفي أوروبا حيث ازدادت شعبيةُ الأحزاب اليمينية المتطرفة؛ مثل: الجبهة الوطنية الفرنسية، والحزب البديل الألماني، وجوبيك المجَري، وحزب الحرية النمساوي، والفجر الذهبي اليوناني. وفي الولايات المتحدة الأمريكية تبنَّى الرئيسُ الأمريكي السابق دونالد ترامب، فكرةَ مراقبة الأحياء ذات الأغلبية المسلمة، واقترح تعذيبَ أفراد عائلات الإرهابيين المشتبَه بهم، ووقَّع على أمرٍ تنفيذي يحظُر به مؤقتًا دخولَ مواطني سبع دول إسلامية الولايات المتحدة.

وبالنظر إلى واقع الإرهاب المنسوب إلى الدِّين اليوم، قد يُغفَر للقادة السياسيين في هذه البلدان؛ لاعتقادهم أنَّ مثل هذه الإجراءات هي أفضلُ سلاح في وجه التطرف الديني العنيف، لكنَّ هذا الكتابَ يتحدَّى هذا الرأي بصراحة وجرأة، ويؤكِّد أنَّ هذه البيئاتِ القمعيةَ التي تخنُق الحريةَ الدينية والتفكير المستقلَّ هي بمنزلة أرض خِصبة طبيعية للإرهاب، وتمكِّن خطاباتِ المتطرفين التي يزعمون فيها أنَّ الدولة تتصرَّف دون عدل تجاه أتباع الديانات.

أما أولئك الذين يدَّعون أنَّ أعمال القمع قد أدَّت إلى نجاحات في سحق التهديدات الإرهابية في دول مثل: الأرجنتين، وسريلانكا، وبيرو، فإنهم ينسَون أنَّ هذه النجاحاتِ في التصدِّي للإرهاب إنما حدثت تجاه منظمات إرهابية عَلمانية: (المونتينيروس) في الأرجنتين، و(نمور التاميل) في سريلانكا، و(الطريق المضيء) في بيرو.

الحرية تقاوم الإرهاب
ويذهب المؤلِّف إلى أنَّ الحرياتِ الدينيةَ تقاوم التطرف والإرهاب من أكثرَ من جانب، فحريةُ الفكر وتبادُل الأفكار تفتح الساحةَ للأفكار المعتدلة التي تتحدَّى أفكار المتطرفين الدينيين، وتنهض بالمجتمع كلِّه، بإسهام مختلِف الجماعات والتنظيمات الاجتماعية في إنشاء مؤسسات خِدْمية وطبِّية وتعليمية، بل إنَّ هذه الحرياتِ تسمح للمتطرفين بالعمل في قنوات شرعية وسوق مفتوحة للأفكار والسياسات. فإدراجُ الجماعات الدينية والأفراد في العمليات السياسية، وحماية حقوقهم الدينية، تنفي مزاعم المتطرفين بأنَّ العنف ضروريٌّ لتحدِّي الوضع الراهن. 

وإنَّ تخفيف القيود الدينية وحمايةَ الحرية الدينية يُنشئان التنافسَ السِّلمي للجماعات الدينية في المجتمع، ومن ثَمَّ الإسهام في مجموعةٍ واسعة من الأنشطة المفيدة، فضلًا عن أنَّ إنشاء أنظمة مواتية للحرية الدينية سوف تعمل مع مرور الوقت على انحسار الهيمنة السياسية والاجتماعية للجماعات المتطرفة، وتقلِّل من انتشار الإرهاب الديني على نطاق واسع.

إذا كانت الحروبُ الدينية قد علَّمت أجيالًا من الأوروبيين أنَّ فرض التوافق الديني لن يؤدِّيَ إلا إلى تأجيج العنف الطائفي، عِوضًا عن إخماده، فإنَّ المؤلِّفَ يدعونا إلى التعلُّم من تجرِبة محاربة الإرهاب، ويؤكِّد العَلاقة السببية بين الاضطهاد الديني والإرهاب الديني، وهو ما يجبُ أن يدركَه العلماء، وصانعو السياسات، ونشطاءُ حقوق الإنسان، والمهتمُّون بالإرهاب والعنف السياسي وحقوق الإنسان والديمقراطية والعَلاقات الدَّولية.

خاتمة القراءة 
يُصنَّف هذا الكتابُ ضمن الدراسات النقدية التي تسعى إلى تصحيح أخطاء جهود محاربة الإرهاب، وعلى رأسها ربطُ الإرهاب بالدِّين. وقد كثُرت الكتب والدراسات التي تحلِّل العَلاقة بين الإرهاب والدِّين، على اختلاف توجُّهاتها ومناهجها، التي قد تصل إلى التناقض، لكن يجمعُها عدم الاتفاق على أنَّ الدِّين جانبٌ مهمٌّ من الإرهاب المعاصر. وقد انتقدَ عددٌ من العلماء الاهتمامَ بالدِّين في دراسة الظاهرة الإرهابية، ودعَوا إلى الاهتمام بعواملَ أخرى، وجادل هؤلاء العلماءُ أيضًا في أنَّ الاهتمام بالدِّين ولا سيَّما دين الإسلام، في كثير من دراسات الإرهاب، إنما هو نتيجةُ توجُّهات سياسية. 

ومع أن «صموئيل هنتنغتون» (1927 - 2008م) لم يهتمَّ بالإرهاب في أطروحته الشَّهيرة (صراع الحضارات)، نجده قد أَولى الصراعَ الديني الكثيرَ من الاهتمام، وافترض أن الصراعاتِ بين حضارات واسعة، كثيرٌ منها مُعرَّفة بالدِّين، ستحدِّد حِقبةَ ما بعد الحرب الباردة. وقد طبَّق كثيرٌ من الباحثين أطروحته على الإرهاب، بحُجَّة أنَّ الإرهاب الديني لجماعات مثل القاعدة يمثِّل «صِدام الحضارات» بين الغرب والعالم الإسلامي، وبنَوا منه نموذجًا يربط المعتقَد الديني بالإرهاب.

وتلقَّى هذا التوجُّه الذي يربط بين الإرهاب والدِّين، ولا سيَّما الإسلام، كثيرًا من الدعم بعد هجَمات 11 سبتمبر، تلك الهجَمات التي أدَّت إلى إعادة التفكير في السياسات الأمنية المحلِّية والدَّولية، وأخذ صانعو القرار التهديدَ الفريد لهذا النوع من الإرهاب على محمل الجِدِّ، وشنَّت الولاياتُ المتحدة الأمريكية حملةً عُرفت باسم «الحرب العالمية على الإرهاب» للقضاء على تنظيم القاعدة والجماعات ذات الصلة. وتضمَّنت هذه الحملةُ غزوَ أفغانستان بعد شهر واحد من هجَمات سبتمبر، وغزوَ العراق عام 2003م، وما أعقبه من احتلال لذلك البلد مدَّة عشر سنوات، وحروبَ الطائرات المسيَّرة في باكستان واليمن، وعملياتٍ خاصَّةً في عشرات الدول الأخرى.

هذا النوعُ من الدراسات أكَّد أنَّ الدِّين يزيد من حدَّة الإرهاب، وأنماط أُخرى من العنف، وهذا ما نجده لدى «جوناثان فوكس» الذي أبرزت دراساتُه الأثرَ الكبير للنزاعات الدينية في إخفاق الدولة، ورأت أنَّ الجماعاتِ القوميةَ الدينية أسهمت كثيرًا في الصراع العنيف عالميًّا، وأنَّ النزاعات على الدِّين تزداد عددًا وشدَّة منذ سبعينيَّات القرن الماضي.

أما «برنارد لويس» (1916 - 2018م) الأبُ الروحي للمحافظين الجدُد، فقد ربط الإسلامَ بالإرهاب في دراسته (جذور غضَب المسلمين)، وذهب إلى أنَّ العنف الذي نراه حاليًّا في البلدان الإسلامية له عَلاقةٌ وثيقة بعناصرَ محدَّدة من التاريخ الإسلامي، وبذلك كان المنظِّرَ الأبرزَ لرُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا). وعلى الرغم من شيوع هذا الرأي في أعقاب هجَمات سبتمبر، تصدَّت كثيرٌ من الدراسات الجادَّة له، وقوَّضَت أسُسَه، ونقضت الادِّعاء بأنَّ الدِّين أو الإسلام تحديدًا، يقود إلى الإرهاب أو يرتبط به، ومن هؤلاء «روبرت بابي» في كتابه (الإرهاب الانتحاري)، الذي قال فيه: «إنَّ الإرهاب الانتحاريَّ لا يحركه الإسلامُ أو عقيدةٌ دينية أخرى، فهو مدفوعٌ بالاحتلال العسكري لمنطقة ما، وبالمشاعر القومية التي تنشأ من ذلك». 

أما «جوناثان فوكس» الذي يقرُّ بالعَلاقة بين الدِّين والعنف، فقد حلَّل العَلاقة بين السكَّان المسلمين والعنف، ووجد أنَّ المسلمين ليسوا أكثر عنفًا من الجماعات الدينية الأخرى. واختبر فوكس حُجَّة صراع الحضارات من الناحية الكمِّية، وأكَّد قِلة الأدلة على وجود صِدام واسع النطاق بين المسلمين وغير المسلمين.  

واهتمَّت بعضُ الدراسات النقدية بالعملية السياسية الكامنة وراء جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية، ممَّا أدَّى إلى الإفراط في الاهتمام بالإرهاب الديني. وأبرزَ «جون إسبوزيتو» في كتابه (الحرب غير المقدَّسة) تهديدَ الجماعات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة، لكنَّه قال: «إنَّ هذه الجماعات مدفوعةٌ بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وليس بالإسلام». وقالت «جوسلين سيزاري» رئيسة قسم الدِّين والسياسة بجامعة برمنجهام البريطانية: «إنَّ أوروبا الغربية والولايات المتحدة نظرتا إلى الإسلام بعين أمنيَّة، ودَعَتا إلى إعادة توجيه انتباه العلماء بعيدًا عن الدِّين (الإسلام تحديدًا)، ونحو العملية السياسية التي أصبح الإرهابُ من طريقها مصدرَ قلقٍ عالميًّا رئيسًا بعد 11 سبتمبر».

وحلَّلت دراساتٌ العَلاقة بين السياسات الدينية للدولة وخطر الإرهاب. على سبيل المثال: أوضح «دانييل فيلبوت» أستاذ العلوم السياسية في جامعة نوتردام: «أنَّ التفاعل بين «اللاهوت السياسي» للجماعات الدينية وموقف الدولة تجاه الدِّين يمكن أن يفسِّرَ ما إذا كانت الجماعاتُ الدينية سلمية أو عنيفة في تفاعلها مع الدولة». وحلَّلت دراساتٌ أخرى العَلاقة بين القمع الديني والعداوات الدينية، فوجدت أنَّ سياسات الدولة القمعية زادت من الاضطرابات الدينية في المجتمع، ومن ذلك الإرهابُ الديني. ​
voice Order

PDF اضغط هنا لتحميل الملف بصيغة

تحميل الملف
voice Order
العدد السادس والثلاثون
إصدار شهري، يقدم مراجعة علمية للكتب والدراسات المتميزة التي تعالج قضايا الإرهاب

 إستبيان

هل تتفق مع الكاتب في رأيه حول هذا الموضوع؟
25/04/2022 13:23