تسجيل الدخول
نجاحات وتحدِّيات
​لئن كان الإرهابُ في تراجع مستمرٍّ، إنه لا يزال باقيًا؛ لأسباب ترتبط بظروف عالمنا المعاصر وتغيُّراته. ففي عام 2022م لم تشهَد 121 دولةً في العالم أيَّ وَفَيات بسبب الإرهاب، وهو أعلى رَقْم منذ عام 2007م. وكانت مِنطَقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا على قمَّة الناجحين في الحرب على الإرهاب؛ فقد انخفض نصيبُها من نسبة الوَفَيات الناجمة عن الإرهاب في العالم من %57 عام 2016م إلى %12 فقط في عام 2022م، بحسَب بيانات مؤشِّر الإرهاب العالمي 2023م.

وللاستمرار في هذا الخطِّ الصاعد في نجاحات محاربة الإرهاب، علينا النظرُ إلى المستقبل، ورصد التحدِّيات التي قد تَعُوق هذه النجاحات، ومعالجتها مبكِّرًا قبل أن تصبحَ أزَماتٍ واقعية. وربما تكون مُخرَجات الثورة الصناعية الرابعة أوَّلَ ما ينبغي أن يهتمَّ به القائمون على محاربة الإرهاب، فهي تقدِّم فرصًا مواتيةً لهم، وتزيد من قدُراتهم، لكنَّها في الوقت نفسه تضع أمامهم تحدِّيات ينبغي رصدُها باكرًا، ووضعُ خطط إستراتيجية لمعالجتها. 

وقد وفَّر دمجُ مجالات تقنية النانو، والتقنية الحيوية، وتقنية المعلومات، فرصةً لدمج العالم الرَّقْمي والافتراضي والمادِّي بوساطة الروبوتات، وإنترنت الأشياء، والمركبات المستقلَّة، والأمن السيبراني، والخِدْمات السَّحابية، والحوسَبة الكمِّية، والذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والطباعة ثلاثية الأبعاد. وإذا كانت هذه التقنياتُ تقدِّم فرصًا واعدة لرخاء البشرية وتقدُّمها، فإن ذلك لا ينبغي أن يُلهيَنا عن التفكير في أخطار سعي المنظمات الإرهابية إلى استغلال الفرص التي تُتيحها تلك التقنياتُ الجديدة، والتفكير أيضًا في سُبل توظيف الدول لها في مكافحة الإرهاب.

ومع أن الهجَماتِ الإرهابيةَ المنخفضةَ التقنية ستظلُّ هي النمطَ السائد على المدى القصير والمتوسِّط، قد توفِّر التقنياتُ الجديدة أدواتٍ ووسائلَ جديدةً للإرهابيين في المستقبل. ومن المتوقَّع أن يتبنَّى أفرادٌ وشبكات إرهابية دمجَ التقدُّم التِّقْني في سياساتها وخُططها وأساليب عملها الجديدة، يُغريهم بذلك أن التقنية ذاتَ التطبيقات العسكرية الأساسية متاحةٌ بسهولة في فضاء الإنترنت، ويمكن الحصولُ عليها بسهولة من القنوات التجارية. على سبيل المثال: يمكن استخدامُ تقنية النانو لبناء أجهزة متفجِّرة أصغر حجمًا وأكثر قوَّة، ويمكن استخدامُ التقنية الحيوية لإنشاء فيروسات جديدة في المختبَر، ويمكن استخدامُ تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في أنشطة تصنيع الأسلحة وإخفائها.

وبعضُ هذه التقنيات بدأ استخدامها حقًّا؛ فالتنظيماتُ الإرهابية تستخدم تِقنيات الاتصال التي توفِّرها ثورةُ المعلومات، وتشير التقديراتُ إلى أن 65 جهةً ناشطة غيرَ حكومية (منها تنظيماتٌ إرهابية) قادرةٌ الآن على نشر طائرات مسيَّرة بقليل من التدريب، ويمكنها الطيران مسافةً تصل إلى 1500 كيلومتر، ويمكن نشرها في أسراب جماعية، واستخدامها في أعمال إرهابية، على غِرار ما فعلت جماعةُ الحوثي في هجومها الآثم بطائرات مسيَّرة على منشآت مدنية في السعودية والإمارات. ولم ينظر المجتمع الدَّولي -ويا للأسف- حتى الآن باهتمام كافٍ في تدابير مكافحة استخدام الطائرات المسيَّرة من قِبَل الإرهابيين. 

وتوفِّر مُخرَجات الثورة الصناعية الرابعة الظروفَ المواتية للإرهاب السيبراني، ومع أنه لم يُعرَف حتى الآن أن أحدًا قُتل بسبب الإرهاب السيبراني، يبقى الحذَر واجبًا؛ فالأسوأ يمكن أن يأتي. ومن التوجُّهات العالمية الحالية زيادةُ الترابط بين السكَّان والبِنية التحتية، ولا سيَّما في المدن الكبيرة المتطوِّرة، وهي ميزة يمكن استغلالها لإلحاق الموت والدمار من قِبَل المنظَّمات الإرهابية؛ إذا تمكَّنت من اكتساب الخبرة. وتُعَدُّ الأنظمةُ المالية والمصرفية والسجلَّات الصحِّية والمسارات والجسور الموجَّهة من بُعد، وأنظمة النقل العام وشبكات الطاقة الكهربائية، نِقاطَ استهداف في هذا المجال.

في حين يمكن تطبيقُ التقنيات نفسِها في مجال مكافحة الإرهاب؛ إذ تُتيح تقنية النانو الكشفَ عن مسبِّبات الأمراض في أنظمة إمدادات المياه، وإزالة السُّموم من العوامل الجوِّية الضارَّة. ويقدِّم تحليلُ البيانات الضخمة المدعوم بالذكاء الاصطناعي فرصًا واعدةً في محاربة الإرهاب. والأهمُّ هو العمل الاستباقي المبكِّر؛ لمكافحة الأنشطة الإرهابية المحتمَلة، مما قد يضطَرُّ الحكومات إلى اتخاذ قرارات صعبة لزيادة ميزانيات مكافحة الإرهاب.
26/07/2023 14:08