تسجيل الدخول
ذاكرة الإرهاب: هجوم كرايستشيرش، إرهاب اليمين المتطرف يضرب نيوزيلندا
فوجئ مسلمون وهم يستعدُّون لصلاة الجمعة في مسجد النور بمدينة (كرايستشيرش) في نيوزيلندا، بمسلَّح اقتحم المسجدَ في تمام الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة يوم 15 مارس 2019م، وبدأ يطلق النار بحقد، فخلَّف 51 قتيلًا و50 جريحًا، من بين 300 مصلٍّ في الجامع.

كانت بندقيةُ المهاجم الإرهابي تحصُد المصلِّين، وكاميرته المثبَّتة على خُوذته تصوِّر مشاهد الرعب وتنقلها في بثٍّ حيٍّ مباشر في موقع (فيسبوك). يُدعى منفِّذُ الهجوم «برينتون تارانت»، وهو في 28 من عمره، ينتمي إلى اليمين المتطرف، ويؤمن بسيادة البِيض في العالم. 

محاكمة الإرهابي
حُبسَ الإرهابي احتياطًا للمثول أمام المحكمة العليا في 5 أبريل. ثم في 27 من أغسطس 2020م أصدر القاضي «كاميرون ماندر» الحكمَ النهائي عليه بالسَّجن المؤبَّد، دون إمكانية الإفراج المشروط، بعد إدانته بجريمة قتل 51 شخصًا. وحُكم حُكمًا آخرَ بالسَّجن المؤبَّد لضلوعه في عمل إرهابي، وبالسَّجن 12 عامًا لمحاولة قتل 40 مدنيًّا. وهذه هي المرة الأولى التي تُفرَض فيها عقوبةُ السَّجن المؤبَّد دون عفو مشروط، وهي أقصى عقوبة متاحة في نيوزيلندا. 

بعد الحكم على الإرهابي كتب «ديلان أسافو» الأستاذُ في كلِّية «أوكلاند» للقانون: «قد نحتفلُ بنظام العدالة الجنائية لمنح الإرهابي أشدَّ عقوبة متاحة، وهو ما لم يسبق له مثيلٌ من قبل، ربما يكون الوقتُ مناسبًا لنا أيضًا للتفكير في مدى استجابة حكومتنا للهجَمات، ولا سيَّما الخطوات التي اتخذتها لوقف تكرار هجَمات مماثلة من الكراهية المعادية للإسلام. ما الذي فعلته للتصدِّي لتفوُّق العِرق الأبيض والكراهية المعادية للإسلام التي أدَّت إلى الهجَمات، ولمنع انتشار هذه الأفكار؟ علينا أن نسألَ أنفسنا: ما القوانينُ والسياسات التي طبَّقتها الحكومة لحماية المجتمعات المسلمة، والأشخاص الملوَّنين، من الأعمال المستقبلية لليمين المتطرف، وإرهاب التفوُّق الأبيض؟ الحكومة كانت مستعدَّةً وقادرة على الردِّ على عنف السلاح، لكن ما الذي فعلته حقًّا؟ لسوء الحظِّ هذا ما تُخفِق فيه حكومتنا، ليس لأنها غيرُ قادرة، ولكن لأنها غيرُ راغبة».

الإعلام والإرهاب 
دوَّن «تارانت» معتقداته في وثيقة أصدرها في بيانٍ من 73 صفحة، نشرها في شبكة (الإنترنت) بعنوان «الاستبدال العظيم» صرَّح فيها أنه كان يخطِّط للهجوم قبل عامين، وأنه اختار مدينة (كرايستشيرش) قبل ثلاثة أشهر فقط. وحذَّر من غزوٍ محتمَل من الهند، أو الصين، أو تركيا في المستقبل. وأرجع هجومَه على المسلمين بأن «الهجوم عليهم يحظى بأكبر قدر من الدعم، وهم من أقوى المجموعات ذات الخصوبة العالية». وأشاد بالبابا «أوربان الثاني» الذي جهَّز أولَ حملة صليبية على المسلمين. وصرَّح بدعمه الرئيسَ الأمريكي «دونالد ترامب»، كونه «رمزًا للهُويَّة البيضاء المتجدِّدة»، وعندما سُئل ترامب عمَّا إذا كان يعتقد أن القوميين البِيض يمثِّلون تهديدًا في جميع أنحاء العالم، أجاب: «لا أعتقد ذلك حقًّا، أعتقد أنها مجموعةٌ صغيرة من الأشخاص الذين يعانون من مشكلات خطِرة جدًّا، إنه من المؤكَّد شيء كريه».

انتشر مقطعُ البثِّ المباشر الذي كان نشره الإرهابيُّ على عدد من مِنصَّات بثِّ المقاطع المصوَّرة، ومنها (لايف ليك) و(يوتيوب)، فحثَّت الشرطةُ وجماعاتُ دعم المسلمين والهيئاتُ الحكومية أيَّ شخص يجد المقطع أن يزيلَه ويُبلغَ عنه. وصنَّف المكتبُ النيوزيلندي لتصنيف الأفلام المقطع المصوَّر على أنه «محظور»، مما يجرِّم نسخَه، أو عرضَه، أو توزيعَه. ومع ذلك بثَّت كثيرٌ من المؤسَّسات الإعلامية في أستراليا ومواقع الصُّحف الشعبية في المملكة المتحدة أجزاءً من شريط البثِّ المباشر، منها مجموعة قنوات (سكاي نيوز) أستراليا.

وبهذا أظهر الهجومُ الإرهابي مدى قدرة المتطرفين اليمينيين على الاستفادة من الإنترنت، وحشد الدعم من المجتمع الافتراضي عبر مِنصَّاته. وأوضح الهجوم أيضًا أن الحكوماتِ والأجهزةَ الأمنية وشركات التِّقنية غيرُ مستعدَّة لمواجهة تحدِّيات اليمين المتطرف في استخدام شبكات الإنترنت المظلم (Dark Web) في التعبئة.

نداء كرايستشيرش
بعد شهرين من الحادث الإرهابي اجتمعت رئيسةُ الوزراء النيوزيلندية «جاسندا أردرن» والرئيسُ الفرنسي «إيمانويل ماكرون» في باريس، مع عشَرة رؤساء دول، وممثِّلين رفيعي المستوى عن منشآت الإنترنت في 15 مايو 2019م، وأعلنوا مبادرةَ «نداء كرايستشيرش»؛ لحذف المحتوى المتطرف والإرهابي من الإنترنت. ودعمت المبادرةَ أكثرُ من 50 دولةً، وثلاثُ منظَّمات دَولية، وثمانيةٌ من مزوِّدي خِدْمات الإنترنت. ورفضت إدارةُ الرئيس ترامب التوقيعَ على «نداء كرايستشيرش»، غير أن إدارة الرئيس بايدن انضمَّت إلى المبادرة في مايو 2021م.

وهذا النداء هو مبادرةٌ تشتمل على سلسلة من الالتزامات تتعهَّد بها الدولُ والمنشآت والمجتمع المدني؛ بمكافحة المحتويات المتطرفة العنيفة والإرهابية على الإنترنت بأساليبَ فاعلة ومؤثرة مع التعاون والتنسيق، واحترام القِيَم الأساسية التي يقوم عليها الإنترنت، وهي الشفافيةُ والانفتاح وصَون الحقوق.

وحقَّق هذا التعاونُ غير المسبوق شكلًا ومضمونًا نتائجَ أولية جيدة؛ ففي الجلسة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019م بنيويورك، وعقب عددٍ من جولات المفاوضات مع منشآت الإنترنت في باريس، وسان فرانسيسكو، وسياتل، أعلن رئيسُ الجمهورية الفرنسية ورئيسةُ وزراء نيوزيلندا عددًا من الإجراءات المهمَّة، من أبرزها:
  • إصلاحُ هيكل «منتدى الإنترنت العالمي المعني بمكافحة الإرهاب» وحوكمته.
  • إنشاء فرق عمل في ذلك المنتدى؛ لإعداد بحوث عن استخدام الإرهابيين والجماعات المتطرفة العنيفة للإنترنت، ووضع إطار مشترك لتبادل البيانات، يحترم خصوصيَّة المستخدِمين وحقوقهم الأساسية.
  • وضع مجموعة قواعدَ (بروتوكول) لإدارة الأزَمات مشتركة بين الدول والمنشآت؛ بُغيةَ التصدِّي الناجع والسريع في حال حدوث هجوم إرهابي، أو انتشار محتوًى إرهابي على الإنترنت.
ومن المقلق حقًّا أن هذا النوعَ من التطرف والإرهاب في ازدياد مطَّرد؛ إذ تشير جميعُ الإحصاءات والتقارير الرسمية على النطاقين الأوروبي والأمريكي، إلى نموٍّ متدرِّج لعدد الهجَمات الإرهابية ذات الطابع اليميني في السنوات الأخيرة، وهي زيادةٌ بلغت %400 في الولايات المتحدة بين عامي 2016 و2017م. وأكَّد مؤشِّر الإرهاب العالمي لعام 2019م أن الاعتداءاتِ المنسوبةَ إلى أفراد أو مجموعات يمينية قومية متطرفة تضاعفت ثلاث مرَّات، وهو المعدَّل نفسُه الذي سجَّله عددُ المتطرفين اليمينيين المسجونين في بلدانٍ أوروبية عام 2018م.
30/04/2023 12:24